انتقال المعلومة تتم عبر وسائل متعددة، كالاتصال الشفاهي، أو عبر المكتوب نصاً في قرطاس، أو عبر الوسائط الجديدة المصورة، ابتداء من السينما فالفيديو فالكمبيوتر ببرامجه التفاعلية المتنوعة. لكن انتقال المعلومة عتبة لاحقة في المعرفة، فالتلقّي الذوقي والتآلف يتحوّل بعد حين إلى معرفة مؤكدة، ولعل دراسات «فرويد» وتنويعات كولن وبيلسون والبرتو مورافيا بل و«سلفادرور دالي» السيكولوجية تشير إلى معنى التلقي الفطري الجنيني بوصفه عاملاً مهماً في المعرفة اللاحقة، وقد كان للتصوف بعامة والإسلامي منه بخاصة نظرات تصب في هذا المنحى مما يمكن التقاطه عند كبار قاماته. الطفل الرضيع ينام بصوت أُمه، وهو فيما يتلقى الصوت ترسخ لديه الخوارزميات المنطقية الموسيقية لصوت الأم، والأمهات يؤلّفن عادةً كلاماً تراتبياً مُموسقاً وخالياً من المعنى في الغالب، فالطفل لايعرف تلك الصوتيات سواء حملت معنىً أم لا، تماماً كالأعرابي الذي سمع جماعة من المتأدبين فذهب ليقول لأصحابه : سمعت قوماً يتكلمون بكلام من كلامنا وليس من كلامنا!. هكذا يسمع الطفل صوت أمه مُستلذاً دون أن يعرف المعنى، لكن ذلك الصوت يصل إلى تلافيف دماغه مُنساباً كالزلال، وحالما يذهب الطفل بعيداً في نومه يتردد رجع صدى الصوت المقرون بصورة الأُم وحنانها فتتحول تلك المعادلة إلى مُقدمة للمعرفة اللاحقة، فالمعرفة المنطقية لا تتأتى للإنسان بدون التقاط الشفرات السابقة لها والتي تغيم في فضاء المجرد السديمي، وهذا مايحدث بالضبط مع الطفل . غير أننا نحن الكبار لا نفقد تلك الطاقة إلا لأننا نتعمّد تغييبها، وقد جرّبت شخصياً وعلى مدى سنين الدراسة الأوروبية بلغات أجنبية كيفية دراسة اللغة من خلال الاستماع المجرد للمذياع، ثم مُواصلة ترك صوت المذياع أثناء النوم، فتيقّنت أن مايصلني في المنام من إشارات وذبذبات ترسخ في عمق اللاوعي وتسمح لي لاحقاً بالاقتراب من تخوم الأسرار اللسانية للُّغة الأجنبية. هذا ليس أمراً جديداً فقد كان أسلافنا يحرصون على الحفظ المجرد بوصفه عتبة حاسمة في المعرفة اللاحقة، وللحديث صلة .