خرجت من منزلها في قرية من قرى «القبيطة» بحثاً عن الماء، وأخذت طريقها مع غيرها من النساء في تلك القرية نحو «وادي السُبد» من قرى الأعبوس الذي يبعد كثيراً عن قريتها سيراً على الأقدام؛ لكن لا بديل أمامها هي وغيرها سوى تحمل عناء السير لساعات طويلة من أجل «دبة» ماء، وقد صارت غاية القصد والطلب بعدما ضرب الجفاف الكثير من المناطق في القبيطة والأعبوس، ووصلت المشكلة إلى ماء الشرب فلا يحصلون عليه إلا بشق الأنفس. وبعد معاناة كبيرة لا يمكن وصفها إلا من خلال حكاية هذه المرأة التي أجبرتني على إعادة الحديث عن مشكلة الماء وقد تناولتها غير مرة وحذرت من تبعاتها إن استمرت على هذا النحو. ما حدث أن هذه المرأة وصلت مع غيرها إلى البئر التي اعتادت أن تأخذ منها الماء في وادي «السُبد» غير أن الزحام على البئر كان شديداً، ففكرت بالذهاب إلى البئر الثانية وهي أبعد بلا شك، لكنها أي المرأة كانت تحسب حساب الوقت جيداً، فالانتظار عند البئر الأولى سيأخذ منها وقتاً أكثر من ذهابها إلى البئر الثانية أو هكذا بدا لها الأمر، فذهبت إلى البئر الثانية وكانت النتيجة أنها تأخرت لأسباب خارجة عن إرادتها بكل تأكيد، فالزحام على كل الآبار. وبعد أن حصلت على «دبة» الماء عادت وهي تبذل كل طاقتها وقدرتها لتصل في أسرع وقت ممكن بعدما أحسّت أنها تأخرت هي ومن معها من النساء هذه المرة. كانت المشقة كبيرة بلا شك، فالمسافة طويلة وهي تحمل على رأسها «دبة الماء» كل هذه المسافة؛ لكنها الضرورة، والشكوى لغير الله مذلة كما يقال. وصلت أخيراً إلى المنزل، ولنا أن نتخيل معاً حالتها عند الوصول بعد طول مسير وهي تحمل الماء على رأسها، والله وحده يعلم كم كانت تحمل من المتاعب والهموم إلى جانب الماء ومن غير الماء في الأوقات الأخرى. وصلت وقبل أن تستعيد أنفاسها من تعب الطريق ومشقة السفر على الأقدام من أجل «دبة» ماء، كان الظلم بانتظارها أمام المنزل بالتعنيف والصياح، وأطل السؤال عن سبب التأخير، وهو سؤال لا ينتظر جواباً ولا يريد أن يسمع جواباً على الإطلاق؛ لأن الأسباب كلها مكتوبة على طول الطريق وفي أنفاسها المتقطعة من شدة التعب وفي دقات قلبها لو أن الرحمة كانت حاضرة لسمعت؛ لكن البعض من الناس لا يعلم ولا يفهم ولا يريد أن يفهم شيئاً، وكل ما يعنيه هو رأيه وراحته فقط . ولأنه لم يجرب هذه المشقة والتعب ولم يحسب لهما حساباً. .كان ينبغي للجميع أن يقدروا لها هذا المجهود ويتعاطفوا معها ويشكروها ألف شكر وألف قُبلة على جبينها المتصبب عرقاً، غير أن ما حصل عكس هذا تماماً؛ ظهر منه ما ظهر وذاع وما خفي علمه عند ربي. ويمكن قراءته من خلال النتيجة التي حصلت، حيث قررت هذه المرأة أن تنتحر.. فانتحرت فعلاً بعد عودتها إلى المنزل بإحراق نفسها، فما الذي يمكن أن نفهمه من هذا الأمر؟. لا أريد أن أحكم على أحد أو أحمّله مسئولية الجفاف في هذه المأساة.. الجفاف وحده لن يستطيع أن ينكر وسوف يقبل بالتهمة وإن كان بريئاً وهو ليس كذلك، على عكس البشر ينكرون وهم ليسوا أبرياء. وفي هذه المأساة التي تزرع الحزن في القلوب والدمع في العيون لمجرد سماعها وتفتح أبواباً للتساؤلات عن السبب والنتيجة، يجب أن نعلم ويعلم الجميع وتعلم الجهات المختصة جميعها أن المشكلة لن تُحل ولن تقف عند مأساة واحدة أو اثنتين من هذا النوع ما لم تنطق الحلول الحقيقية للتخفيف من معاناة الناس، وما لم يجر التعاطي مع مشكلة الماء بمسئولية عالية وبالقدر الذي تستحقه من الاهتمام. سوف يتسبب الجفاف بالإضافة إلى ما قد سبق من قبل في حدوث الكثير من المشكلات الأخرى وربما لن يقتصر الأمر على المشاكل الاجتماعية بدرجاتها المختلفة والتي بدأت تحدث بالفعل، وأكثر ما أخشاه ويخشاه غيري بالطبع هو أن تتكرر حادثة الانتحار بسبب عدم تفهم الرجال لمتاعب النساء على النحو الذي سبق ورأينا كيف كانت النتيجة مأساوية؟!. وفي كل الأحوال فإن ظاهرة الجفاف ومشكلة شحة المياه يفترض أن تدفع الجميع نحو تصحيح علاقتهم باستهلاك المياه أولاً ،ومن ثم التفكير الجدي والعمل على الاستفادة القصوى من مياه الأمطار والسيول في المواسم التي تهطل فيها الأمطار وتتدفق السيول، فالمشكلة أكبر وأخطر مما يتصور البعض. ولا يجب أن ننسى حقيقة أن بلادنا تعاني مشكلة كبرى في هذا الجانب وسوف تعاني أكثر في المستقبل إن لم نع جميعاً أهمية الاستغلال الأمثل للمياه والاستهلاك الأمثل لها حتى نستطيع أن نتفادى الجفاف والمشكلات الناجمة عنه وهي كثيرة ومعقدة للغاية ولن تقف عند حد معين.