على مرمى حجر من البئر الوحيدة في الحارة كانت تسكن امرأة الصمت المديد، والتي كانت أكثر نساء الحارة بهجةً ومرحاً وأناقة، غير أنها كانت تتناوب بين سعادتها المفرطة، وحالات الصمت المديد التي تستمر ثلاثة أشهر لا تنقص يوماًً! قيل إنها كانت تغيب عن عوالمنا حينما ينتابها ذلك الصمت المؤلم والمتأمل .. الغائب في الغيوب، فلقد كانت تكتفي بالجلوس في دارة المنزل من النهار إلى الليل، وتجيد قضاء حاجاتها الطبيعية بصمت مطبق. لا تتحدث ولا ترمش بعينيها ولا تلاحظ شيئاً وكأنها حقاً في عالم آخر .. كان «دمدم» الوحيد الذي يتحمل الجلوس بجوارها لساعات طويلة، لأنها كانت ترعاه من دون العالمين . كان دمدم يأكل من بيتها وجباته الثلاث، ويقبع حزيناً محتاراً وهي في حالة ذهولها الشهري الصامت. العلاقة بين البهلول والمرأة الصامتة لبعض من الدهر اتصلت بحالة من الاستشعار العام بأنهما طبيعيان ولا يختلفان عن بقية سكان الحارة.. والشاهد إن حالات مماثلة في أفق ما كانت تعبر عن معنى البدايات الجنينية لحارة تغرق في معقول اللامعقول، فعلى مقربة من بيت الصامتة دهراً كان المعاق الذي جمع أشتات الفنون والمهارات.. قيل إنه كان من المغامرين، وإنه ركب حصاناً أبيض ناصعاً عند ساحل «الليدو» فسقط منه وأصيب بإعاقة دائمة في عموده الفقري حتى احدودب ، فكان لا يرى إلا ما تحته .. سموه الأحدب il gobbe واشتهر في الحارة بوصفه مُعلماً للموسيقى والتشكيل و اللغة الانجليزية والغناء، والملفت أن صوته النحاسي كان أشبه مايكون بآلة وترية مشدودة لمفتاح «صول» وحيد لا يتغير ، غير أن أميز ما ميز الأحدب أنه كان صانعاً ماهراً للدراجات الهوائية التي كان يؤجرها لأطفال الحارة. كان الأحدب شاملاً في عمله واهتماماته، وبموازاته وعلى مرمى حجر منه كان الأستاذ «بارجا» الذي مثل علامة فارقة في امتطاء المستحيل مما لا يمكن حصره في قول عاجل . تلك النماذج كانت مفارقة للزمان والمكان، لأنها تجوهرت في بدايات الصفاء والنقاء .