كانت مبخرة المعتوه الذي سُمّي في الحارة باسم «دمدم» تنتصب على قمة عود طويل متعرّج وممتد لأمتار إلى أعلى الأفق، وكانت أول عتبة للمبخرة المعلقة في قمة العود بيرق أخضر اللون عليه كتابات بيضاء ناصعة هي مزيج من العربية وهيروغليفيا غامضة تجمع بين أشتات من النصوص الغريبة الملتبسة؛ تماماً كموشّحات «دمدم» التي لا تنتمي إلى لغة مفهومة؛ بل كانت أشبه بخليط من الأصوات كتلك التي يطلقها طفل لايزال يتهجَّى كلماته الأولى. يتجوّل «دمدم» بالمبخرة سنوياً وفي يوم معلوم لا يتغير على مدى السنين، ومن المبخرة يصدر خيط دخان أبيض رفيع، يتجوّل بهلول الحارة بين المنازل، وتصل روائح مبخرته إلى أنوف السكان حاملة معها رائحة غامضة هي خليط من روائح العود واللبان البلدي، وكان مألوفاً أن تُصاب أغنام الحارة بعطس متواصل في أيام جولات البهلول. يقول الناس: إن هذا العطس القادم من أبخرة «دمدم» تُطهّر الدواب من الآفات والأمراض، وتخرج الأفاعي من جحورها، وتحاصر الصراصير في أوكارها، وتميت البعوض في برك مياهها، ولأن الأمر بهذه المثابة؛ فإنهم يتجهون بالأغنام إلى بئر الماء ذات البرك المفتوحة ويجعلونها تشرب من الماء في جوار الأبقار والجمال والحمير اعتقاداً منهم أن التطهّر سيسري على بقية الكائنات، وأن أبخرة «دمدم» المباركة لها فعل السحر على توازن الحارة وسكانها ومواشيها ومياهها وأجوائها. ينساب خيط الدخان الأبيض من أعلى المبخرة متجوّلاً بين أروقة الحارة ومنازلها، وتتواشج كلمات «دمدم» المبهمة مع الروائح الغامضة، فيما ينصرف الأطفال إلى نوع من الاحترام الاستثنائي للبهلول الذي كانوا قبل حين يزعجونه قائلين: «دمدم» لا عشاء اليوم..!! فيبكي «دمدم» كطفل صغير ويلجأ بعد قليل إلى ربة الصمت المديد والإبحار الفريد صوب برازخ الكائنات الزرقاء ذات العيون الكبيرة المطروحة في منتصف الوجه، والأذان الطويلة كأرقى هوائيات سمعبصرية، والأقدام التي كأقدام الحمير. يقولون إنهم الجن، ويصفونهم بتلك الصفات الجسدية، ومن لا يرد أن يصدّق ذلك فيمكنه الاستماع إلى القصة التالية: ذهب إلى حفل الزواج لأخذ ابنته، وجدها مع أخرى تنضح بروائح الكافور، رافقتهما صامتة، دار في خلده أنها صديقة ابنته أو تعرّفت عليها في حفل الزواج.. كان الواجب يقتضي إيصالها إلى منزل أهلها في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وكان يتساءل في نفسه: لماذا استخدمت الكافور كعطر لبهجة الزواج؟!.. ساروا سوية، وعند مدخل المقبرة انحرفت الصديقة الافتراضية صوب المدخل، وانسابت بخطى سريعة كأنها تسبح في الهواء؛ لاحظ أقدامها التي كانت أقدام حمار..!! اعتقد أنه يهذي ولا يرى؛ سأل ابنته: من تكون هذه..؟! قالت: إنها آمنة بنت صالح الساكنة في الخط الثالث من الحارة. لم يتمكّن الأب من النوم في تلك الليلة، ذهب إلى بيت آمنة، وجد أباها صالح بن علي، سأله: هل وصلت ابنته آمنة إلى البيت..؟! صاح الرجل مستغرباً: اتق الله يا رجل، ابنتي توفيت منذ 3 سنوات..!!، فسقط في يد الوالد، لكنه لم ينبس ببنت شفة..!!. في الصباح ذهب إلى عرّاف الحارة، قال له العرّاف محذّراً: لا تروِ ما رأيت، لا تقل لأحد ما رأيت..!!، لم يتمكّن المسكين من إخفاء همِّه على زوجته التي أقسمت بأغلظ الأيمان أن تكتم السر، ولكن....... قال لها ما رأى وسمع، بعد يومين وجد ميتاًَ في ساحة الدار!، وقبل أن نواصل حكاية البهلول «دمدم» لا مناص من الاعتراف أن قصة الرجل الذي مات رواها المؤرّخ العلامة عبدالقادر بامطرف، ودوّنها بذات الصيغة والمعنى في صحيفة «الشرارة» التي كانت تصدر في المكلا، وشاءت الأقدار أن يُتوفَّى الأستاذ عبدالقادر بامطرف بعد كتابة تلك القصة..!!. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك