لم يكن أحد يعرف سر العناية الخاصة التي توليه «سيدة الصمت المديد» لبهلول الحارة «دمدم»، ولقد سميت «سيدة الصمت المديد» لأنها كانت تصاب بنوبة خرس تستمر أشهراً ثلاثة، وبالترافق مع تلك النوبة المجهولة للسكوت المطبق كانت تلتزم بالتخلي عن عاداتها المألوفة كواحدة من أكثر نساء الحارة أناقة واستغراقاً في بهاء الجمال الانثوي المقرون بالذهب والفضة والحرير والروائح الزكية.. كان ديدنها خارج أيام الصمت التسعينية ان تكون اكثر النسوة نشاطاً ومرحاً، وأكثرهن تناغماً مع سحر الأنثى الذاهبة إلى غوامض الزرقة وأقواس قزح، بل الناشرة لظلال صفائها في واحة من اخضرار ممتع. وبالمقابل كان بهلول الحارة «دمدم» لعبة يتقاذفها الأطفال، مطاردة وإزعاجاً.. حتى إذا وصل المسكين ذروة الاستشعار بالقهر والمهانة جلس منتحباً كطفل صغير أصيب بوخزة ابرة، ولا ينقذ «دمدم» مما هو فيه سوى «سيدة الصمت المديد» التي تمنع عنه أذى الأطفال بإشارة من يدها.. ثم تأخذة إلى البيت وتطعمه وتسقيه. هكذا كان ديدنها، فالمعتوه البهلول المطارد من أشقياء الطفولة يجد الملاذ الآمن عندها، وفي اللحظة التي تبدأ فيها دورة صمتها الفصلي، وانصرافها لحال مغاير لأيامها المترفة بالحيوية، يكون «دمدم» قد قرر بدوره أن يتوارى وراء بيرقه الأخضر، ومبخرته الفواحة، وهو يتجول في أرجاء الحارة متمتماً بكلام غير معروف، وناشراً ظلال أدعته الغامضة حتى يحين الغسق. لم يعرف أحد سر تلك العلاقة الميتافيزيقية بينهما، ولا عرفوا لماذا كان البهول شاهداً على الأحوال.. يراقب مواليد الحارة ومرضاهم وموتاهم وهو على حاله لا يتغير، حد زعم البعض أنه عاش أكثر من مائة عام دون أن يصاب بنوبة برد أو زكام، وقالوا إنه كان فتياً وهو في التسعين من عمره. لم يعرف أحد ما كان مصير سيدة الصمت التي خبا بريقها وتلاشت حيويتها في لحظة سديمية من أزمنة الدهر.. لكن ما يعرفونه حقاً انها وبهلول الحارة كانا ينتميان لزمن آخر ارتسمت ملامحه في سرائر الغيوب!!