جلستُ بقربها فقد جذبني كل تلك الأمثال التي تعجّ بها ذاكرتها ، أصغيتُ ولم أنبسُ ببنت شفه، كانت أمثالها مع سبب ورود تلك الأمثال يهتز لها قلبي اهتزازات كهربائية، فتفصلني عن ذاتي فأسبح مع نفسي في فضاء لا حدَّ له ولا مدى . وفي تلك الساعة المملوءة بسحر الهدوء وأحلام اللانهاية دخلت بخط معاكس أحمل سؤالاً عن أصل، مثل أحببت أن أعرف كيف ومن أين حُسبَ علينا كموروث ثقافي لا يمت بصلة لتعاليم ديننا السمح وهو..... ( زوّج بنت الثمان وعليّ الضمان ) ....!!! سكتت دقيقة نظرت فيها نحو السماء تحاول أن تقاوم بحر عينيها من استدرار الدموع وبصوت تعثر بالغصات الأليمة قالت : لقد فتحتُ عيني وأنا أسمع هذا المثل بل وعايشتهُ وطبقته....!!!!. وقامت معلنة انتهاء الجلسة الخاصة بالأمثلة التراثية مسرعة إلى صرح منزلها تبعتُها أُسابق خطواتها المسرعة.... وفي عيني قبل لساني إصرار أن أعرف ما وراء كل هذا الحزن الذي طغى على ملامح تلك العظيمة من جراء ذكر ذلك المثل....!!! . اعتلتْ ذلك السرير المُعد من الحبال كما جرت عادة هذه البلدة الساحلية الحارة وأومأت لي بيديها النحيلتين بأن أجلس على الطرف الآخر من السرير، فتحولت نحوي بوجهها الغارق بين خطوط الحزن الذي حفرها الزمن عليه، وظهرت على شفتيها خيال ابتسامة هي البقية الباقية من ملامح الجمال المدفون مع السنين الفائتة، وبصوت أشبه بصوت أنفاس طفل مقهور يتيم بدأتْ بسرد قصة ذلك المثل من منظور تجربتها الشخصية: ناداني والدي ذات ليلة ولم أكن قد بلغتُ الثامنة من عمري وقال لي: البسي هذا الثوب الجديد وكانت والدتي قرب التنور تعدُ خبز العشاء فسقط الخبز منها فوق الحطب، بعد أن ارتجفت رجفة جفن النائمين وذعرتْ ذعر الطفل الذي تخيّل ( صياد ) تتبعه كظله في الليلة الظلماء، فنهرها والدي نهرة لم يسبق له أن قام بها معها.... فانكمشت بجانب ذلك التنور تبكي ما أجهل ما أنا ماضيةٌ إليه...!! . ضُرب الرصاص في قريتنا كما لم يكن من قبل وقد كنت لبست ثوبي الجديد المبطن بالنواح الموجع، والبكاء المر المؤلم، وأخذ بيدي وقال لي: أنتِ الليلة ستغادرين منزلنا إلى بيت زوجك فقد أصبح هو المسئول عنك. فازداد نحيب أمي ورددتُ بكل بساطة هل سيكون أبي الثاني فاستقام والدي وشدّ يدي وجرّني بعدهُ وهو يتمتم ليس بوالدكِ وإنما زوجك. مضيتُ بعده ورافقنا بعض رجال القرية وعند وصولنا إلى بيت الزوج المُرتقب خالجني شعور غريب ومريب....!!! فاحتميت خلف والدي وأمسكت به بكل قوتي فجذبني بقوة إلى هذا السرير الذي نقعد عليه اليوم وأجلسني عليه وقال لي مثلين كانا بمثابة حسم لموضوع يخصه لوحده: ( المرأة مالها إلا الزوج أو القبر ) تبعه بمثل آخر (زوِّج بنت الثمان وعليّ الضمان ). ووضع قبلة على جبيني لا أعرف معناها إلى اليوم..! من حُسن ظني أنني كنت الزوجة الرابعة بين نسائه فأجّل التعامل معي كزوجة حتى كبرت مع أبنائه فلم ألحق أن أكبر مع بناته حيث كان يسارع بتزويجهم عملاً بالمثل المتفق عليه كعرف قريتنا . سكتت بُرهة وأكملت حديثها: ومرت الأعوام وأنا أسكن في هذا البيت... وكل ما أعمله هو أن أسير كل صباح وراء البقرات الحلوب إلى طرف الوادي حيث المرعى الخصب، وقبل أن تغيب الشمس أعود بتلك البقرات إلى الحظيرة، لألتهم بعد ذلك خبز الذرة مع القليل من السمن، وأفترش هذا السرير مسندة رأسي على ساعدي وأنا أسأل نفسي: لماذا أبي باعني، من هذا الرجل الذي ينتظر انتصاف الليل ليركلني بقدمه فأهب من رقادي مرتعدة خائفة لينال حاجته مني مغمسة بكل ذلك العنف والسخط لدفعه ثمني غالياً لوالدي لأزف إليه والذي من جرائه توفّرت لأخي مصاريف الغربة للحبشة حيث كانت قبلة المغتربين في تلك الأيام فكان هذا الموال اليومي للأعوام وصمتي يلازمني نفس تلك الأعوام لعدم امتلاكي القوة للرد لأسباب لم أدركها إلى اليوم . وفي ذات مساء رجعت بتلك البقرات الحلوب إلى الحظيرة... أحسست بجلبة في المنزل فاتجهت ناحية الصوت فإذا بزوجي مُسجّى على سريري وزوجاته الأخريات حوله ...فاقتربتُ وشهقت مع اقترابي فأشار لي بيده فاتجهت نحوه فأخذ بيدي ووضعها على وجهه وكأنه أراد أن يستر كل تلك السنين التي مضت من عمري، وبعد لحظات ممزوجة بالآهات ظهر وجهه من بين يدي المرتجفة..، فرأيت عينين غائرتين محدقتين إلى السماء، وشفتين يابستين، وعنقاً متصلباً بعد حشرجة الموت... فكانت المرة الأولى والأخيرة التي أرى وجهه في وضح النهار منذ أن أدخلني والدي عليه في ذلك المساء..!!! انقضت شهور العدة وأتى والدي مثل عادته في ذلك المساء ليأخذ بيدي ويعود بي أدراجي.... ولكني هذه المرة سحبت يدي من قبضته وأومأت له أن يجلس على ذات السرير الذي أجلسني عليه.... والتقت عيناي بعينيه...!!! عيون شابة في ربيع العمر قد حفت أقدام الموت حول سريرها، عيني امرأة كانت بالأمس طفلة تشتعل بين تلك الأودية بنشاط وحيوية فأصبحت اليوم مهزومة تترقب الموت...!!! وبعد لحظات صعبة جمعتُ فيها كل قواي طبعتُ نفس القبلة على جبينه وقلت له: لن أذهب معك فأنت قد وأدتني هنا منذ أعوام ولن أخرج من هنا، شعرت بدهشته من كلمة (الوأد )....!!!!التي ربما لم يسمعها في حياته...!!!فأومأت له برأسي نعم وئدت لأني سألت شيخ قريتنا، ما معنى..(زوِّج بنت الثمان وعليّ الضمان ) ........ فأفهمني أنه الوأد الخفي للبنت بدلاً من وأدها وهي رضيعة من دون مقابل وئدها وهي بنت ثماني سنوات ولكن بمقابل ............ لا أدري كيف خرج ذلك الصوت من أعماقي... فهي المرة الأولى التي أخاطب بها والدي...!!! والذي أخذ طريقهُ نحو الباب متوارياً لا أعرف هل يحمل بداخله ألم الأسف لما حلّ بي بسبب مثلِه أو ألم لضياع فرصة أخرى لوأدي بمقابل، فأفسدتها عليه بتمردي المهزوم؟