ونحن في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تجد الجامعات العربية واليمنية بشكل خاص نفسها في عالم يختلف كثيراً عن ذلك الذي كان في الربع الأخير من القرن العشرين, عالم طغت على أحداثه ومستقبله ظاهرة العولمة بكل أبعادها وتحدياتها التي تتطلب منا كمجتمعات وحكومات ومنظمات تكريس قيم وجهود إحداث التقدم ومواكبة عصر العولمة في شتى المجالات. ويعد التعليم العام والتعليم الجامعي بشكل خاص أهم روافد تحقيق التقدم والنهوض بالمجتمعات في العصر الحديث, فالطالب الجامعي لم يعد طالباً محلياً بل تحول إلى طالب عالمي بفعل ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والانترنت, التي جعلت معظم الجامعات والمعاهد العليا في العالم في متناول يد الطالب الذي يستطيع بلمسة زر على حاسبه الشخصي المتصل بشبكة الانترنت أن يبحر في محيط ضخم من المعلومات والبدائل المتعلقة بالتعليم العالي ويقارن بينها بسهولة ويمكنه أن يلتحق ويدرس عن بعد في أي منها بسهولة . وتحولت معايير الجودة في التعليم من معايير محلية تضعها الجهات المسئولة عن التعليم في كل دولة إلى معايير عالمية (ISO ) الايزو, تضعها منظمات دولية متخصصة وتشكل منطلقاً وهدفاً تسعى إليه مختلف المعاهد والكليات والجامعات. وأصبح معيار نجاح وتقدم أية جامعة أو مؤسسة تعليمية يقاس بالمستوى العلمي والأكاديمي لخريجيها ومدى تسلحهم بمهارات تطبيقية تتلاءم ومتطلبات سوق العمل المعاصر, وليس بعدد هؤلاء الخريجين أو بجرعات الحفظ والتلقين لمقررات بعيدة عن الواقع العملي ومتطلبات سوق العمل. وتحولت الجامعات في الدول المتقدمة وحتى في كثير من الدول الآخذة بالنمو من إطار الأداء التقليدي إلى الأداء القائم على تحقيق معطيات وقيم التقدم, ذلك الأداء المخطط الذي يستهدف تنمية معارف ومهارات الطلاب وربطهم بالواقع العملي لمقابلة احتياجات المنظمات التي تسعى للتقدم وتعزيز قدرتها التنافسية في ظل الاقتصاد العالمي الجديد القائم على أساس المعرفة وتكنولوجيا المعلومات، بالإضافة إلى دعم وتحسين العلاقات بين الجامعات والقطاع الصناعي من خلال عدة وسائل كالأبحاث والمشاريع المشتركة وتقديم الخدمات الاستشارية ورعاية المبدعين والباحثين بما يحقق التقدم لهذا القطاع والفائدة المادية والعلمية للجامعات.. لقد أصبحت المنافسة بين الجامعات أكثر حدة مما كانت عليه في العشرين عاماً الأخيرة لاسيما المحلية، حيث أصبح التنافس اليوم قائماً بين الجامعات الحكومية والجامعات الخاصة, وهو سباق تنافسي تدركه بوعي بعض الجامعات الخاصة, وتسعى للفوز فيه من خلال زيادة حصتها السوقية في سوق التعليم العالي, وأيضاً تنافس بين هذه الجامعات وجامعات أجنبية جاءت لتستثمر أموالها وتمارس خدماتها محلياً, أو تلك التي تنشئ برامج مشتركة مع جامعات خاصة محلية, أو التي تستقطب طلاباً وطالبات من الداخل للسفر والالتحاق بها أو الدراسة بها عن بعد بوسائط الكترونية. إن هناك قيماً للتقدم والنهوض بالمجتمعات تعد أساساً لسلوك الناس أفراداً وجماعات، وهى أساس لفاعلية الأداء في كل المجالات بما فيها التعليم العالي, ويمكن أن تمثل هذه القيم أساساً للمنافسة بين مؤسسات التعليم العالي, وأهم قيم التقدم ما يلي : قيمة التخطيط العلمي لبرامج ومناهج التعليم الجامعي التي تجمع بين التدريس والبحث العلمي وليس مجرد التدريس بحيث نأمل أن تسود في جامعاتنا روح التخطيط العلمي المؤسسي السليم للأداء الجامعي في مختلف جوانبه من تدريس وتأليف وبحوث وخدمات طلابية, مع ضرورة التحديث والتطوير المستمر لمناهج الجامعات بما يواكب مختلف التطورات في المجتمع وسوق العمل .. قيمة البحث العلمي في جامعتنا على مستوى الأساتذة والأساتذة المساعدين والمدرسين بحيث يتم تشجيع ودعم البحث العلمي في مختلف المجالات وتذليل الصعوبات التي تواجه الباحثين في الجامعات وعمل كل ما من شأنه أن يسهم في سيادة روح البحث العلمي في الجامعات بما يفيد مختلف المجالات في المجتمع ويحقق نهضته وتقدمه.. قيمة ثقافة النظم – بدلاً من ثقافة الأشخاص - بمعنى أن تصمم النظم لتبقى وتتطور بغض النظر عن تغيير قيادات الجامعات والكليات والأقسام العلمية .. قيمة الإتقان سواء في الأداء الأكاديمي لعضو هيئة التدريس أو في وضع الكتاب الجامعي أو في الإشراف على الرسائل العلمية أو في الأداء الإداري بالجامعات وتشجيع الطلاب على التفكير العلمي والابتكاري والانخراط في فرق عمل منتجة .. قيمة قبول النقد ونقد الذات, بحيث يعد من الضروري من وجهة نظري أن يتحلى عضو هيئة التدريس في الجامعة بهذه القيمة ويزرعها بين طلابه وطالباته, من خلال تقبله لآراء طلابه باعتبارهم المستفيدين وأصحاب المصلحة الحقيقيين, وذلك وفق ضوابط معينة بما يؤدي إلى تطوير أداء أعضاء هيئة التدريس مستفيداً من مرآه حقيقية هي آراء طلابه .. قيمة استشراف المستقبل : من حيث الخطط والبرامج والدراسات والبحوث التي يجب أن تواكب التغير المستمر في حاجات سوق العمل المحلية والخارجية في ظل عالم سريع التغيير في كل المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية والثقافية .. قيمة روح الفريق، حيث يجب أن تسود هذه القيمة بين أعضاء هيئة التدريس أولاً ليزرعوها ويرووها وينموها في طلابهم, وقد أثبتت تجارب العديد من الدول المتقدمة أن وراء التقدم عوامل عديدة كان القاسم المشترك والأعظم فيها هو سيادة الأداء الجماعي وروح الفريق في جامعاتها سواء بين أعضاء هيئة التدريس أم العاملين في الجامعات أو أداء الطلاب .. قيمة القياس المرجعي benchmarking وذلك بأن تختار الجامعة أو الكلية منافساً نموذجياً وتحدد جوانب تميزه في مختلف المجالات ثم تضع برنامجاً لعبور الفجوة في الأداء والارتقاء إلى مستوى هذا المنافس النموذجي حتى إذا ما تم ذلك تقوم برصد منافس نموذجه آخر وإعادة الكرة, وهذا أحد أدوات التحسين المستمر ضمن إطار منهجية إدارة الجودة الشاملة .. وفي الختام يجب على جامعاتنا أن تدرك أن القدرة التنافسية في التعليم الجامعي لها شقان أساسيان : الشق الأول : يتمثل في قدرة التميز على الجامعات المنافسة في مجالات حيوية مثل البرامج الدراسية، وخصائص ومواصفات الهيئة التدريسية، والمكتبات والقاعات والتجهيزات الدراسية والبحثية، وتسهيلات التدريب العملي للطلاب، ونمط الإدارة ونظم الجودة, وابتكار نظم وبرامج تأهيل جديدة تواكب مختلف المتغيرات في البيئة المحيطة.. الشق الثاني: يتمثل في القدرة على جذب واستقطاب الطلاب والطالبات المتميزين من السوق المحلية والخارجية, ولا شك أن النجاح في الشق الثاني يتوقف على مدى النجاح في الشق الأول. ولاشك أن تعزيز التنافسية بين جامعاتنا سوف يصب في صالح أطراف عديدة هي الطلاب وأصحاب الأعمال والشركات والجامعات والاقتصاد القومي. وعلى الباحثين في جامعاتنا نفسها أن يلعبوا دوراً مهماً في تناول وتوضيح مواطن القوة والضعف في جامعاتنا وقياس تنافسيتها وسبل تعزيزها في عالم متغير أصبحت المنافسة أحد ثوابته ومتغيراته في آن واحد. (#) أستاذ التسويق المساعد جامعة تعز [email protected]