(1) الهدوء بعيداً عن صخب الحضارة والعصرنة طابع ينتظم حركة الحياة في هذه المدينة ، كان هذا ما لمسته في زيارة لها ليس اليوم ولكن قبل ما يربو على سبع سنوات .. فحينذاك كنتُ أرى “شارع المطراق” على ما فيه من حركة التجارة وتفاعل المستودعات التجارية مع أنشطة الميناء , كنت أراه وأعجب لانسيابية المرور وهدوء المارة حتى في وقت الظهيرة ساعة فوران الدماء في العروق واشتعال سورات الغضب في النفوس. عدت اليوم ونفسي تقودني إلى أن أرقب بعض التغيرات الماثلة في وجه هذا الشارع .. شاهدت بعض التغيّر، لكنني لم أشاهد ما يلغي إحساسي القديم بأصالة الطابع المدني لصورة الحياة في هذه المدينة الفاتنة , عروس البحر الأحمر . على أن القضية كلها تعود - فيما أظن- إلى نضج الوعي الحضاري لدى الإنسان التهامي الذي يقوده هذا الوعي دوماً إلى إعلاء شأن الحياة الهادئة والبسيطة غير المتكلفة , وتقديس الوطن واحترام منجزاته التاريخية التي ما عهدناه يسمح حتى بإثارة نقاش حولها من قريب أو بعيد ؛ لأن طبعه الحضاري يرسم منه شخصية متسامية عن الصغائر لا تنظر إلا إلى ما يهم الجموع الوطنية كلها من عوامل البناء والنشاط التنموي في ربوع الوطن عامة . وفي هذه الأيام خاصةً ؛ يجد الزائر أن عروس البحر الأحمر قد كثّفت من استعدادها للاحتفاء بالذكرى الوطنية الغالية على القلوب . ذكرى إعادة تحقيق وحدة الوطن في الثاني والعشرين من مايو 90 م , فالشوارع يزيّنها كثير من مظاهر الزينة وعبارات الابتهاج والتهاني بقدوم هذه المناسبة ، والناس مسرورون وقسمات وجوههم تُفصح عن إحساس عميق بعظمة الذكرى وقيمة الوحدة في النفوس.. وعلى بساط الساحل الأخّاذ حيث يكون حديث الفطرة والنقاء في موقف المناجاة مع نغمات الأمواج الهادئة تجد الاطمئنان باسطاً ذراعيه بالوصيد . وقلوباً تبتهل إلى بارئها بأن يديم عليها نعمة الأمن والأمان ، وما أُحيلى السمر على ضفاف الأمل ، والنظرة إلى المستقبل بإشراقٍ وتفاؤل على وقع أهازيج الفرح والابتهاج بذكرى استرداد الإنسان اليمني لمكانته الحضارية وإعادة الاعتبار للتاريخ بإعلان إعادة تحقيق الوحدة الوطنية وقيام الجمهورية اليمنية. (2) كان أستاذي الدكتور علي بن محمد الزبيدي عميد كلية الآداب بجامعة الحديدة قد ألحّ عليّ بإطالة المقُام وحق الضيافة,فتجسّدت في نفسي قيمة الحكمة القائلة:(إعرف وطنك) , ولهذا فما كان لي أن أندم على جولة قصيرة بين الأحياء ثم إلى الطريق البحري لأجد نفسي بعد ذلك أمام مأدبة غداء تهامية بنكهة الأصالة والاعتزاز بالموروث .. هناك حيث يجلس الناس على كراسي صغيرة لتناول الفتّة الدخنية مع اللحم المهروس بمذاقها الرائع وندرة تركيبتها .. وأين نجدُ اليوم مأدبةً فيها محصول «الدخن»البلدي ذي القيمة الغذائية العالية إلا عندكِ يا أرض تهامة المحروسة ؟!. (3) جامعة الحديدة صرح علمي يسعى اليوم نحو إعادة «الأشاعر» إلى منزلتهم العلمية والثقافية ودورهم الحضاري المشهود في تاريخ اليمن الإسلامي . فهي جامعة ناهضة تسعى نحو توفير كثير من التخصصات الملبية لاحتياجات الحياة المدنية من القوى العاملة وبما يناسب طبيعة البيئة الساحلية مثل إنشاء كلية علوم البحار ، ولكن في المقابل يبدو أن الدور الثقافي غائب، فكيف يصدّق أحدٌ أن مدينةً بحجم (الحديدة) تخلو من متحف وطني يحفظ ذاكرة الوطن وتظل مكوّناته تعمل في بناء الوعي الحضاري والتاريخي والنضالي لهذا الشعب ، وتشكيل الهوية الوطنية لأبنائه ، هل هذا معقول يا وزارة الثقافة ؟!