عندما سمعت الشاعر نجيب محمد المراد لأول مرة في الشارقة لم أكن بحاجة لأكثر من بارقة في الزمن لأتيقن أنني أمام شاعر مطبوع، وشعرية مدوْزنة بموسيقى الكلام ومتوالياته اللامتناهية، فاللغة ليست دالة الشاعر فحسب، بل إنها تلك الكيمياء السحرية القادرة على التحولات حد الاحتياط، والرافعة في آن واحد لرايات المعاني التي تتمرأى أمام ناظري الذائقة، كما لو أنها بهجة الشفق وأقواس قزح. اللغة هنا تعبير يتجاوز الكلام إلى اتصالات غير لفظية مزاجها الإشارة والعبارة معاً، والمعاني تتقافز من تضاعيف البيان لتقول «كلاماً من كلامنا وليس من كلامنا» . نتوقف أمام الشاعر نجيب محد المراد في زمن للبيان والبديع يتسامق بنا إلى ذُرى الخيال، حيث الصورة الشعرية تداعب أحاسيسنا كما لو أنها ريشة تتهادى مع النسائم وتستعصي على المحاصرة .. تنساب في أرواحنا كما لو أنها الماء الذي نحاول الإمساك به دون جدوى.. نستشعره لطيفاً بارداً، ولكن دون أن نتمكّن من جمعه في قبضتنا كما كان يفعل ابن الفارض الذي هزّه الوجد وساح في دروب التيه حد القبض على المستحيل وهو في سجدة تماهيه مع الناموس، فإذا به يُمسك المعنى في قبضته كأنه فرخ حمام !! .. الإشارة هنا دالة التجريد لا التجسيم، والمعنى في مفهوم ابن الفارض المتوجّد إشارة وليس حكم قيمة، والحال فإن الشعر ليس إلا حالة تتوالد من كلام مُرسل. كان الجاحظ يقول: إن الكلام في متناولنا جميعاً كأي شيء نقابله في قارعة الطريق، لكن صناعة الشعر ليست متاحة لكل من يتعاطى الكلام، ونقول استطراداً على الجاحظ: إن الألوان المتوفرة بسخاء الطبيعة وتضاريسها اللامتناهة ليست متاحة لكل من عانق الريشة ووضع لوناً على سطح لوحة.