الجزء السادس تم عقد مؤتمر مصيري في اليابان حول التعريف بالإسلام، حيث اجتمعت في صالة المؤتمرات الضخمة في طوكيو شخصيات يابانية علمية، وسياسية مرموقة، واجتماعية ذات مناصب، ورجال أعمال ورؤساء شركات عملاقة، وبعض الوزراء، ورجال الدين الشنتي والكونفوشيوسي. جلس الكل يستمعون بإنصات بالغ إلى المحاضرات التي يلقيها الوفد الإسلامي القادم من الشرق الأوسط للتعريف بدين الإسلام . إلى أن جاءت المفاجأة... حين تم التعرض لمفهوم قتل المرتد؟ (لنتابع جولات المؤتمر) رئيس الوفد (بشيء من التضايق): هل تريدين أن تعلمينني ديني، أنا الذي جئتُ ألقِنُكِ أبجدياته، القرآن يا قوم عام والحديث خاص يوضح ملابسات الكلام العام، ولذا كانت الأحاديث واضحة في قتل المرتد. ياباني من جامعة ناغازاكي (سائلاً): ما هذه الأحاديث المزعومة التي تهدم أصلاً عظيماً في قرآنكم؟ رئيس الوفد (وابتسامة خفيفة على وجهه وشعور القوة والاطمئنان بادية على محياه): أول دليل يفقأ العين قتال المرتدين، فكانت حادثة مروعة قتل فيها الآلاف وليس أفراداً متناثرين، فكانت بمثابة الظاهرة الاجتماعية المزلزلة، فالخلفاء الراشدون عندما رأوا الأعراب تركوا الإسلام قاتلوهم مباشرة لإدخالهم مرة أخرى بقوة السيف في الإسلام، بموجب أحاديث واضحة أنه (لا يحل دم أمرىء مسلم إلا بثلاث: قاتل النفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة) وحديث (من بدَّل دينه فاقتلوه) وحديث (أهل عرينة الذين جاؤوا للعلاج في المدينة فلما ارتدوا وهربوا بالإبل لم يكتف الرسول بقتلهم بل سمل عيونهم وقطع أطرافهم)، فهل تريدون أدلة ميدانية أقوى من هذا. ياباني (متخصص في دراسة الأديان المقارنة) يعقب بشكل طويل: مع أنني غير ضليع بعلم الحديث الذي تستشهد به، ولكنني حللت هذه الأحاديث بدراسة مستقلة واستشرت بعض المفكرين فعلمت أشياء غريبة، منها أن الحديث لا يبلغ في القوة مهما بلغ درجة أن يهدم ركناً هاماً من الإسلام مثل مبدأ عدم الإكراه، فالنص القرآني هو المرجع النهائي عند الخلاف، فإذا جاء نص من الحديث يخالف النص القرآني صراحةً، بشكل يقطع الطريق على المفهوم القرآني ألغاه النص القرآني بشكلٍ آلي، فعندما تقول الآية إن مبدأ الإكراه ملغي جملة وتفصيلا، ملغي فلا يستخدم ضد أي إنسان، ويجب تحييد الجسد وعدم تعذيبه لإجباره على اعتناق مبدأ ما، أو التعلق به بالقوة، كذلك أباح القرآن على حد علمي عكسه تماما، فعند استخدام القوة يمكن للإنسان في ظروف كهذه التظاهر بالكفر مع الاحتفاظ بالإيمان سرا، ريثما تنجلي الأزمة، لأن ثقة القرآن بالضمير لا حد لها، فهو يحترم العقل والإيمان والقناعة ويحميها، فهو لا يجبر في ثلاث صور: لا يجبر على الاعتناق بالقوة. لا يجبر على الترك بالقوة، كما لا يجبر على الاحتفاظ بالقوة. فهو يريد تحييد الجسد بالكامل في لعبة القناعة، فهو يراهن على أن العاقبة هي للعقل والقناعة، وليس أساليب القهر والإكراه التي تحمل فشلها سلفاً وضمناً باتباعها هذا الأسلوب، لأن طريقة الإقناع غير مرتبطة بالقوة بل بالفهم والاقتناع. وبهذه الطريقة تم إلغاء كل هذه النصوص التي اعتمدتها يا سيدي. وأريد أن أريحك أكثر ومن خلال النصوص التي استخدمتها، أن مشكلة النصوص تكمن أيضاً في التفسير والاستخدام الصحيح لها؛ فالنص الذي استخدمته (من بدَّل دينه فاقتلوه) هل تريد منا أو أفهم عليك أن المسيحي يقتل أيضاً فيما لو بدل دينه فأراد اعتناق الإسلام مثلاً؟ فنغلق الطريق إلى الدخول إلى الإسلام الذي نصبنا أنفسنا للدعوة له أي أصبحنا أعداء له من حيث لا نشعر شيء رهيب أليس كذلك؟! أي أن مبدأ (الطريق الواحد) ساري المفعول لكل الأديان، فنخرج بلاغاً أن وضع الدين يأخذ صفة الجينات الوراثية، التي لا يجب التلاعب فيها بحال من الأحوال. لا يا سيدي حتى الجينات نحاول أحيانا التدخل لتغييرها في حالات الأمراض الوراثية، أما حسب مفهومكم فكل ذي دين يجب أن يحافظ على ديانته، وكل صاحب مذهب يجب أن لا يبدله، فهي أمور خُتم عليها بالشمع الأحمر إلى يوم القيامة بغير رجعة، وممنوع التفكير فيها تحت طائلة الشنق وقطع الرقبة بجريمة الردة؟! أليس في هذا مصادرة كاملة لكل الخيار الإنساني وإنشاء مجتمع أحادي التفكير، ديكتاتوري الصبغة تحت العباءة الإسلامية، منافق الصفات، خائف على نفسه، منحبس التفكير من أي حركة عقلية خوف الانزلاق باتجاه (إنكار معلومٍ من الدين بالضرورة) لا ضمانة فيه لأي إنسان أن يغير رأيه، مع أن الإنسان في حالة صيرورة لا تتوقف، فهي حركة تجمد وتوقف في الزمن. ثم إن حديث أهل عرينة الذي استندت إليه راجعناه، وعرفنا أن المسألة مختلفة كلية عن الطريقة التي عرض فيها الحديث، بصورة حملت الإسقاطات والإكراهات الفكرية التي تحملونها، فهؤلاء قُتِلوا لأنهم قَتَلوا وليس لأنهم غيروا رأيهم، يا قوم ألا ترون أنكم تسيئون إلى دينكم ونبيكم، الى درجة أنكم أصبحتم ليس نورا لنشر الفكر، بل فرامل لإعاقة الحركة العقلية . وأن دينكم خائف وجل من نفسه فيريد المحافظة على أتباعه بأي ثمن ولو تحت التهديد بالقتل، مثل جماعات المافيات؟! إن أهل عرينة استاقوا الإبل وقتلوا الناس وهربوا، وبعد كل هذا كان إنكار الإسلام منهم تحصيل حاصل، فكان موقف الرسول منطقياً في معاقبة مجموعات من القتلة الخطرين، في ظل مرحلة تاريخية، وهو الذي يفعله قانوننا أحياناً تجاه المجرمين، ولكن عرضكم شوه الصورة وقلب الموضوع؛ بحيث لم تعودوا تخدموا مبادئكم بشكل منطقي وعقلاني وإنساني متفتح، فأصبحتم أعداء مبادئكم من حيث لا تشعرون. وأما حديث قتل (التارك لدينه المفارق للجماعة) فهو واضح أنه انقلب على الجماعة وتآمر عليها وساعد أعداءها وهو ما فعله المرتدون أيضاً بإعلان العصيان المسلح، وهو يقودنا إلى ظاهرة المرتدين ومعالجتها في صدر الإسلام، وهي مرة أخرى تشعرنا أنكم تقرأون تراثكم بعيون الموتى. دعني يا سيدي أضرب لك مثلاً معاصراً في هذا الموضوع؛ لأقرب لك حيثيات البحث: لنفترض أن الدولة طالبت أهل مدينة ما بدفع الضرائب فامتنع أهلها عن ذلك، بل قتلوا الشرطة التي جاءت لتحصيلها، وأعلنوا ثورةً مسلحة ضد الدولة، يعلنون فيها عدم استعدادهم لدفع الضرائب، ماذا تفعل الدولة في موقف كهذا حيالهم؟ تأمل تعليل أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) لمقاتلة المرتدين، حينما أصر على (عقال بعير) أي تحصيل الضرائب منهم، فهو لم يقاتلهم بسبب تغيير آرائهم أو تركهم للإسلام، بل بسبب مهاجمة المدينة، وقطع الطريق، ونهب القوافل، واستباحة الحرمات، وقتل العباد، والإفساد في الأرض. وأريد أن أضيف إلى هذا أن عليا (كرم الله وجهه) حينما قاتل الخوارج لم يقاتلهم لأنهم غيَّروا رأيهم وبدَّلوا دينهم، بل وضح رأيه فيهم عندما سُئِل عنهم: أكفارٌ هم؟ أجاب: من الكفر فروا. قالوا سائلين: يا أمير المؤمنين: أو منافقون هم؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا، وأولئك يذكرون الله كثيرا. كرروا سائلين: فما تقول فيهم إذاً؟ أجاب في قولته الشهيرة التي تعتبر من درر الحكم، وقواعد التعامل الإنساني في قانونٍ مزلزلٍ في العلاقات: ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه. كانت سياسة الأمام علي (كرم الله وجهه) مع الخوارج واضحة (دعوهم ما لم يسفكوا دماً حراما) فهو قاتلهم ليس من أجل آرائهم غيَّروها أم بدَّلوها، مع كل اعتقاده أنهم الذين وصفهم الحديث، بأن أحدكم يحقر صلاته بجانب صلاتكم، وصيامه بجانب صيامكم، ولكنهم مع كل شدة العبادة هذه يمرقون من الدين، كما يمرق السهم إذا دخل الصيد فخرج منه بدون أثر (كما يمرق السهم من الرمية)؛ فمع اقتناع علي الكامل بأنهم مرقوا وخرجوا من الدين، لم يحاربهم من أجل أفكارهم، بل حاربهم من أجل رفع السلاح وفرض الرأي على الناس بالقوة المسلحة، وهذا الذي فعله أبو بكر الصديق في قتاله مع المرتدين .. وأريد أن أضيف شيئاً آخر عن فعل رسول الله أنه لم يُنقل عنه أنه قتل مرتدا لأنه غيَّر رأيه فقط، كما لم يرسل أحداً يغتال الآخرين لمجرد آرائهم تبديلا وتحريفا، بل كان يقاتل من رَفع السيف على الناس لفرض الرأي بالقوة المسلحة، وتآمر وظاهر على الإجرام .. لا أدري يا سيدي هذا بعض مما شُرح لي فماذا تقول ؟؟