كان الشاعر المجدد أبو نواس يتعامل مع الشعر بوصفه فناً من الفنون الجميلة. لذلك قام بتوصيف البيان الشعري قائلاً: غير أني قائل ما أتاني من ضنوني مُكذّب للعيان آخذ نفسي بتأليف شيء واحد في اللفظ شتى في المعاني قائم في الوهم حتى إذا ما رُمته رُمت مُعمّى المكان من هذا القول يتبيّن لنا أن الشاعر يقول ضناً لا يقيناً .. ثم انه لا يعترف بالمرئي المُعاين أو الواضح .. ثم إنه بعد ذلك يقوم بالتأليف . كأنما التأليف نوع من الإبحار في زمن مجهول، بدليل أنه يستخدم المفردة حمّالة الأوجه، أو متعددة الدلالات، فاتحاً الباب لآفاق تأويلية للنص. أما المكان بحسب قوله فإنه لايعدو أن يكون مكاناً غائماً ضبابياً غير مرئي !!هذه الغواية الفنية لا تتجسد في الشعر فقط بل كل أنواع الفنون مما يوصلنا إلى وقفة أمام هذه «اللعبة» اللذيذة والعصيّة في آن واحد . لعبة الفن تعني ببساطة شديدة أن الفنان يتعامل مع الواقع والخيال معاً. لكنه ينتصر للخيال والوهم والافتراض بدلاً من اليقين والإدراك العقلي والمفهومي .. لهذا السبب يمكننا تتبع خيط الوهم في الأعمال الفنية بما في ذلك الأعمال الأكثر واقعية وتشخيصاً . في هذا الباب يمكننا ملاحظة أن البُعد الثالث أو المنظور في اللوحة الكلاسيكية إنما هو بُعد وهمي . ذلك أن الورقة التي يرسم عليها الفنان التشكيلي لها طول وعرض .. أما العمق فإن الفنان يتمكن من تصويره عبر خط المنظور الوهمي الذي يؤدي إلى إظهار البُعد الثالث أو العمق في اللوحة. مقطع القول: إن كل عمل واقعي هو أيضاً خارج الواقع بمعنى من المعاني، وهذا ما حدا بروجيه جارودي إلى تسطير كتابه«واقعية بلا ضفاف» متحدثاً فيه عن لاواقعية الواقع !، أو كما نقول في المثل «الحقيقة أغرب من الخيال».