لم يكن لمحمد (صلى الله عليه وسلم) أن يتلقى الوحي على مرآة قلب مصقولة بحذق؛ بدون الاستعداد الطويل والمكثف في غار حراء بالعزلة والصوم المديد؛ عندما كان يعتزل في رمضان (الليالي ذوات العدد) كما ورد في السيرة النبوية الشريفة . ولا نتعجب أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يراجع القرآن مع جبريل في رمضان، وأن القرآن نزل في رمضان، وأن ليلة القدر التي تعادل ثلاثاً وثمانين سنة هي من تجليات نهاية المخاض الروحي في رمضان (سلام هي حتى مطلع الفجر) وأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يواصل في رمضان، ويمنع أصحابه من ذلك خوف المشقة عليهم، فيكون الصوم ذلك المزيج من المعاني والرؤى والمشاعر ومع تقدم الصيام ينطلق في النفس مزيج من المعاني الروحية والندى والاستغراق بعالم من الهدوء والاستسلام الروحي والتجلي الخاص واتقاد الذهن ومعاني الرحمة والانكسار وتذكر المعذبين والجياع في العالم وخفة البدن وراحة الجهاز الهضمي ونظافة أخلاط البدن الداخلية وقلة تدفق البروتينات إلى الكبد كسموم كما نعرف في عالم الطب، فالكبد يقوم مع البانكرياس بعملية رهيبة من التفتيت والتصفية والتنقية قبل أن تدخل نظام الدم الداخلي، وينكشف ( خبل الدماغ ENCEPHALOPATHY) بتدفق البروتينات إلى الدم مما يجعلنا نفهم معنى خمول التفكير بعد وجبة ثقيلة والميل للنوم، وهنا تبرز جدلية الازدواجية المحيرة في الإنسان (المادة اللامادة). هناك علاقتان مهمتان يلعب الصيام على أوتارها ويراهن على دخول فضاءها: الأول هي علاقة المادة باللامادة، فيسبر عالم البدن والفكر في الازدواجية المحيرة للإنسان (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) التي لم يحل الطب أسرارها بعد، والثاني جدلية (الطعام والأخلاق) التي تناولها (ابن خلدون) في فصل خاص مثير عندما تحدث عن الأثر المتبادل في (تأثير المناخ والهواء والطعام في أخلاق الناس). الصيام يؤثر على الروح من خلال الإمساك بآلية العضوية كمدخل جوهري في لعبة تغيير الإنسان، فمع توقف دخول السوائل والطعام والاعتماد على الطاقة الداخلية عند الإنسان، يشجع آلية (أكل الجسم نفسه بنفسه) وحرق مدخراته الداخلية؛ أي أن الصيام يقوم بتحريض آليات استنفار البدن في هذا التحدي العضوي، فيستهلك وقوده المختزن، وهو بهذا يحرك المدخرات المكومة المتجمعة على مر الأيام، ومع زحزحة وتحريض وتحريك هذه (الشحومات) المتراكمة يقوم بإدخال نظام جديد إلى دورة البدن العضوية، فنظام الصيام يقوم بفكفكة وزحزحة وتحريض آلية النهوض بالبدن في نسق حياتي جديد، ويبدو أن الروح لا تنشط ما لم تنشط من عدة مداخل، والصيام يقوم بتغيير نظم جوهري للحياة، وهو هكذا يقلب العالم الروحي من مفاتيح مادية على اعتبار أن هناك ضفيرة متداخلة، ولضم منسق ، وامتزاج لا نعرف كنهه ما بين المادة والروح، ونظام الصيام يهيج هذه العلاقة، ويحرر ويطلق الآصار والأغلال باستنهاض أمر ثقيل على الروح بتغيير نظم جوهري أساسي في النسق المعيشي، عندما يهجم على معدة وأمعاء الإنسان ومعها كل مصادر إمدادات الطاقة؛ بتحريض آليات الحرق الداخلية مما تراكم ولم يستفد منه البدن، وأصبح عبئاً وثقلاً على العضوية.