دأبنا جميعاً على التمنطق بالديمقراطية والحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية وداومنا على الظهور في الواجهات الإعلامية نطالب بإلحاح باحترام الرأي والرأي الآخر، لكننا عملياً نطالب كل شعوبنا بأن يلعنوا حكوماتهم وأنظمتهم ولا يذكروا حسنة واحدة لهم وإلا فهم (أبواق) و(طبول) السلطة، كما نطالب شعوبنا أن تتظاهر كلها ضد الحكومات والأنظمة ولا تؤيد لها قراراً واحداً، فإن تظاهروا لتأييد أي قرار للحاكم فهم (بلاطجة) نشتمهم من فوق كل منبر!. تساءلت مع نفسي : لو أن كل الأقلام تبنت خطاب المعارضة هل سيبقى هناك رأي ورأي آخر؟ ولو نجحت المعارضة في الوصول إلى سدة الحكم هل سيتحول كتّابها إلى أبواق وطبول؟ وهل سيتحول دفاع أنصارها عن سياساتها ورموزها إلى أعمال بلطجة محرمة على غرار ما يشيعه الإعلام اليوم على كل المناصرين لأنظمة الحكم في بلدانهم؟. العراقيون سعوا إلى الإطاحة بنظام صدام حسين فكان الطريق عبر الاحتلال الأمريكي، ودفعوا الثمن بأكثر من مليون قتيل ومفقود ونحو سبعة ملايين عراقي مشرد، منهم أربعة ملايين خارج وطنهم، وما كادوا يتحررون من الإرهاب والحروب المذهبية ويتنفسون الصعداء حتى خرجوا إلى الشوارع بمظاهرات عارمة يطالبون بإسقاط الحكومة، رغم أن القوى المشاركة فيها هي نفسها التي قادت التغيير وأطاحت بنظام صدام. وفي تونس التي لم يمض على سقوط نظامها سوى شهر ونصف ترتفع الأصوات الشعبية ضد الحكومة وبدأت جموع غفيرة تهاجر إلى ايطاليا هرباً من جحيم التغيير، أما مصر وفي اليوم السابع من سقوط نظامها الذي يصادف اليوم الجمعة فستشهد مسيرات مليونية مناوئة للسلطات الجديدة، وأمسى البعض يلعن من كان يسميهم قبل أسبوع (ثوار) وينعت المثقفين المدافعين عنهم ب(أبواق وطبول) السلطة. إن هذه الفوضى التي يعيشها عالمنا العربي اليوم ليست إلا وليدة الجهل الديمقراطي الذي بات يفصل كل شيء على مقاساته الخاصة دونما اعتبار لأي قيم سياسية أو مبادىء أخلاقية حتى أباح للقادمين على دبابة (بريمر) إلى العراق أن يسموا ما حدث (تحريراً) وليس احتلالاً، ويبيح اليوم لكل قوى المعارضة العربية الفاشلة في الانتخابات أن تسمي محاولات انتزاع الحكم بفوضى الشارع (ثورة) وليس انقلاباً على الديمقراطية وتمرداً على مخرجاتها. ورغم أن القادمين الجدد إلى دوائر الحكم العربية في العراقوتونس ومصر يقولون إنهم وصلوا إلى سدة الحكم بقوة الديمقراطية وبفضل حريات التعبير إلا أنهم سرعان ما بدأوا باجتثاث الفريق المناوىء فقد تم حل وزارة الإعلام في العراق وتحريم الوظائف على كل إعلامي مدح أمراً في النظام السابق، فيما يعد المصريون (قائمة العار) بحق الإعلاميين في مؤسسات الدولة ليتبين بذلك أن لا وجود لمبدأ (الرأي والرأي الآخر) إلا في سياسة الأنظمة التي أسقطها. وقد تهون حريات التعبير أمام تجريم قيادات أجهزة ومؤسسات الدولة وحتى صغار الموظفين وكأن في الديمقراطية إلغاء للحقوق والتاريخ المهني، وإباحة مطلقة للحاكم الجديد يفعل ما يشاء، فالعرب ترجموا لوناً غريباً من الديمقراطية المفرغة من جميع مضامينها الأدبية والفلسفية، والتي تؤسس لفوضى طويلة الأمد، إذ لم تعد صناديق الاقتراع هي الطريق الديمقراطي للوصول إلى رئاسة أي دولة عربية بل المواقع الاجتماعية (فيس بوك) و(توتير) والحشود الشبابية من فئة العشرينات العمرية، وفي البلدان الفقيرة التي تعاني من ظاهرة البطالة سيكون بالإمكان تغيير نظام الحكم بداية كل شهر طالما وان التظاهرات تؤمن للعاطلين لقمة خبز يومهم فهم لن يمانعوا من التظاهر يومياً، ولفترتين صباحية ومسائية. لست أدافع عن فساد الأنظمة العربية لأنني أحد ضحاياها لكنني مقهور على فساد الديمقراطية التي كانت أملنا جميعاً لحياة كريمة.