المنهج المعرفي للسنة يعمل على الحفاظ على النسيج الاجتماعي على مستوى الأسرة فالمجتمع كان من منهج النبي تغيّر الفتوى حسب تغيّر الأحوال وتغير الزمان والمكان جمع الرسول بين لفت نظر الرأي العام وعلمنا الرسول كما يقال:علمني كيف أصطاد الحل يكمن في البحث الواعي عن المنهج النبوي وهذا هو الطريق لاستيعاب الحياة المتجددة في الحلقة(2) كنت قد تكلمت في مقدمتها عن المنهج النبوي المفسر في التطبيقي كما ذكرت نماذج لهذا المنهج ..وفي هذه الحلقة سأعمل على تقديم المزيد من التطبيقات المنهجية غير أني سأشير أولاً إلى أقوال أئمة المقاصد حول السنة المنشئة للأحكام، وهي السنة المنهجية التي تتحدث عنها فنقول : لقد قسم العلماء السنة إلى أقسام، منها:ماهو “فطري” كالأكل والشرب واللباس والنوم فهذه ليست من السنة التشريعية، وقسم يأتي في حكم الخبرة والعادة والتجارب ومن ذلك قضايا الطب فليست من التشريع وإنما من باب التجارب المكتسبة اجتماعياً وهناك قسم آخر مثل إعداد الجيش وتنصيب القضاة والإرسال إلى الملوك فهذا مخصوص بالحاكم وليس الرسول “أنتم أعلم بشؤون دنياكم” ونوع آخر فيه إرشاد فقط وليس تشريعاً مطلقاً...مثل قوله لزوجة أبي سفيان حينما شكت إليه بخل زوجها في الإنفاق..فقال لها: خذي ما يكفيك وأولادك دونما إسراف وكذا قال الرجل يشكو بطنه: اذهب إلى أسيد بن كلدة ليشد ليشدخ لك تمرات بنواها، فهذا إرشاد منه وليس تشريعاً نعم يمكن أن يستفاد من اللجوء إلى أهل الاختصاص وهو منهج إرشادي بديع ..وقسم فيه تشريع كالفتوى1”والقضاء وتعليم الحقائق العالية والآن سأعود إلى استعراض نماذج جديدة في المنهج المعرفي. 1 منهج نظري جامع مانع (لا ضرر ولا ضرار) أنه (صلى الله عليه وسلم) هنا يربطنا بخلاصة مقاصد الشريعة التي جاءت لسعادة الإنسان المتمثلة في (دفع مفسدة أو جلب مصلحة). 2 الحفاظ على النسيج الاجتماعي على مستوى الأسرة فالمجتمع ، تمثل هذا الحفاظ في إرساء مبدأ العدل من ذلك عندما جاء الرجل يريد أن يشهد الرسول في قطعة أرض أعطاها لأحد أولاده دون غيره فقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم) هل أعطيت كل أولادك؟ قال :لا فقال له الرسول اشهدوا غيري لا تشهدوني على جور” فإذا كان تخصيص أحد الأولاد سيكون سبباً في تمزيق النسيج الأسري رغم ما يوجد بين الأخوة من العاطفة فما القول في إيثار جماعة دون أخرى؟على أن هناك استثناءات في هذا الصدد ذكرها أئمة المقاصد استلهاماً وانطلاقاً من المنهج المعرفي المرسوم، حيث أجازوا تخصيص بعض الأولاد بعطاء إذا كان عاجزاً (معاقاً) أو طالب علم مثلاً، أو حصلت له كارثة وهذا التخصيص يأتي في إطار العدل. وفي هذا الإطار: أجاز العلماء عبر التاريخ الإسلامي للجد أن يقعد أحفاده في مقام أبيهم المتوفي أي لو أن شخصاً توفي قبل أبيه فإن أولاده سيحصل لهم ضيق مادي لأن جدهم قد استحوذ على قسط مما خلفه والدهم..وهنا لم يقل أئمة المقاصد : إن الله اختار لهم هذه الموقف ولكنهم قالوا في البداية يستحب للجد أن (يقعد) الأحفاد محل أبيهم يأخذوا نصيبه، لكن نظراً لصعوبة العيش في العصور المتأخرة صدرت فتوى الأزهر في هذا الصدد ولكنها هنا ليست للجد، وإنما صدرت إلى القاضي المولى في الجهة المختصة بأن يقتطع وجوباً للأيتام من نصيب الجد أوصى أم لم يوص. وهذا لعمري عين المنهج النبوي في العدل ومنهجه في فن التعامل المقاصدي المعرفي الذي سبق وأن أشرنا إليه تخصيص أحد الأولاد وكذا تشريعه في قتل الخطأ..فلم يقل في المقتول بدون قصد نزل فيه قدر الله، وبالتالي فلا دية له؟ نعم الصواب هو نزول قدر الله في المقتول خطأ ولكن من لأسرته وأولاده؟ هذا هو منطق العدل السماوي. 3 ويأتي في هذا الإطار قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) (لا وصية لوارث). 4 منهجه في تغير الفتوى حسب تغير الأحوال وتغير الزمان والمكان...حيث نجده (صلى الله عليه وسلم) قد أجاب على سؤال واحد بإجابات مختلفة بلغت قرابة (54)إجابة. والسؤال هو :ما هي أفضل الأعمال؟ فتأتي الإجابة حسب حال السائل، مثلاً: سأله أحدهم عن أفضل الصدقات، أجابه الرسول أفضل الصدقة ما أبقت غنى، لأن هذا السائل لديه كرم زائد سيؤدي إلى الضرر بحقوق الأولاد وآخر يسأل نفس السؤال، أجابه الرسول: أن تتصدق وأنت صحيح فصيح ترجو الغنى وتخشى الفقر، لأن السائل فيه بخل فعالجه الرسول بهذه الإجابة ،وتكرر السؤال نفسه من آخر فيقول له الرسول: درهم أنفقته على يتيم، ودرهم في سبيل الله، ودرهم على ولدك فالأفضل ما أنفقته على ولدك، لأن الرجل هنا لديه تدين مغشوش فإنه لم يعلم المقام الذي تعبده الله فيه أولاً..فأبدأ بنفسك ثم بمن تعول..آخر يكرر نفس السؤال فيقول له:أفضل الصدقات سقي الماء. إن الرسول هنا عالج مشكلة اجتماعية حضارية، ولأن السائل لديه إمكانات مادية أكثر فأرشده إلى الأكمل الذي يتناسب وقدراته وإمكاناته. 5 قبول ما تيسر من العمل الفرائض فهذا أعرابي أقسم للرسول ألا يزيد عن الصلوات الخمس ورمضان والزكاة المفروضة والحج فقال الرسول: أفلح إن صدق ودخل الجنة، إنه أسلوب تربوي فذ يراعي الفروق الفردية. 6 إثارة الرأي العام هذه المنهجية أصلها في القرآن قال تعالى{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} وأن لفظ المؤمنون هو الرأي العام وهنا نجد الرسول وضع هذا المنهج كوسيلة ولم يقم بحل المشكلة بنفسه إنه يقدم لنا منهجاً للحياة جاءه رجل يشكو شدة ايذاء جاره له مراراً والرسول يأمره بالصبر وفي المرة الرابعة نصحه الرسول بأن يخرج متاعه إلى قارعة الطريق..ففعل الرجل فكان يسأله المارة:لماذا؟ فيقول: آذاني جاري..فكانوا يلعنوا جاره...ويصل الرجل إلى الرسول شاكياً أن الناس يلعنون فقال له الرسول: ما لعنك الناس في الأرض إلا بعد ما لعنك الله في السماء..فأدرك الرجل سوء فعلته والتزم بعدم الأذى، هكذا جمع الرسول بين لفت نظر الرأي العام بما يسمى اليوم الاعتصام وعلمنا الرسول كما يقال «علمني كيف اصطاد»..مع أنه كان قادراً على نصح المؤذي. 7 دعوة إلى الاقتصاد: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) إنه هنا يدعو إلى استزراع الأرض لبناء الاقتصاد ولأن قول الرسول هنا جاء كمنهج لم يقف العلماء موقفاً واحداً حرفياً وإنما فهموه وفقاً للمنهج علماً بأن بعض العلماء أخذ الجانب الحرفي لكن الذين نظروا إلى المنهج المعرفي قالوا: إذا كانت الأرض بعيدة عن العمران فهي مباحة وإن كانت في ضواحي المدينة فإنه يلزم إذن حاكم البلد وهذا يعني المنهجية. 8 ( من قتل قتيلاً فله سَلَبُه) هكذا قال الرسول وسط المعركة السلب هنا الدرع السيف...الخ فلو جئنا اليوم نطبق النص الآنف حرفياً ..إنها فوضى وكارثة.. إذ إن السلب في عصرنا مختلف تماماً انه: دبابة، قاعدة، صواريخ، مدرعات فإذا حكمنا بالسلب للقاتل انطلاقاً من النص الآنف فهو مخالف للعقل والدستور والعرف والقانون..ولا يخالف في هذه فقيه بل عاقل. منهج الرسول في السنن الكونية 9 كيف نفهم القدر وكيف نمارسه؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز” في هذا التوجيه يقدم الرسول منهجاً في كيفية التعامل مع القدر، هذا المفهوم المنهجي النبوي الرائع طغى عليه صراع فكري حتى ضاع تماماً وكان البديل هو (الجبرية) القاتلة، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من التخلف الحضاري بل الغيبوبة الفكرية الحضارية..وبدلاً من الخوض في ركام الصراع الفكري عبر التاريخ الذي طال قرابة ألف عام ولا زال.. نقول: إنه من الضرورة بمكان أن نعود إلى المنهج النبوي حتى نفهم الإيمان بالقدر وفقاً للمنهج النبوي المعرفي (احرص على ما ينفعك..) لكن الغريب كيف انقلب الفهم بفعل ممنهج كان للاستبداد السياسي الدور الأبرز في تحريف المنهج النبوي..هذا الانقلاب الممنهج ميّع الأمور كلها وأنكر الأسباب بل قال إن الأخذ بها والاعتماد عليها شرك وإنها لا فائدة منها وإنما الفاعل الحقيقي هو الله وهذا خلط ومغالطة، فالكفار جميعاً لا يؤمنون بالله وينجح أخذهم بالأسباب لكن الصراع المذهبي أضاع الحقائق وحاشا رسول الله أن يصادم سنن الله في النفس والكون والاجتماع. نعم ما يريده الرسول هنا هو: بما أننا مسلمون فإنه حريص علينا أن ننجح في (فوز في الدنيا وثواب في الآخرة) قال لنا احرص على ما ينفعك لتفوز حضارياً في الدنيا واستعن بالله ولا تعجز) لتفوز بالثواب في الآخرة فهذا هو مراد الرسول ومقصده صلوات الله عليه. وبالتالي فالحل يكمن في البحث الواعي عن المنهج النبوي وهذا هو الطريق كما هو كفيل باستيعاب الحياة المتجددة..وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله.. هامش: 1 للإمام القرافي كتاب متميز بعنوان: الأحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام قدم فيه (45)مثالاً للفرق بين الحكم والفتوى في تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم