أطرف ما في مجتمعنا هو أن الكل يخوض في كل شيء، ولا أحد يتكلف في إبداء رأيه بأي شأن كان، والتثبت به إن راق له. لكن تلك الخصلة الطريفة التي غرستها طقوس مقايل القات أضحت الأسوأ في أروقة السياسة التي لا تحتمل المغامرة والتكهنات، أو أن يجزم رجل السياسة أن القنبلة المسيلة للدموع التي فرّقت بها الشرطة متظاهرين هي (غاز سام) وبالتحديد (الخردل) فالغرب أعاد العراق إلى القرون الوسطى بتهمة مماثلة ثبت أخيراً أنها كانت من صنعه!!. ويبدو أن فضائيات الإثارة سال لعابها بغزارة على موضوع “الغازات السامة” فصالت وجالت بين المقرّات الحزبية تغريها مهارة بعض اليمنيين في التمنطق بما يعلم ولا يعلم، متفادية المرور بالمختصين لئلا يقطعوا عليها الإثارة وتداعياتها في الساحة الشعبية, على غرار ما فعلته قناة “الجزيرة” وغيرها. لقد أصابتني الدهشة وأنا أتابع الجدل الحاد حول القنابل المسيلة للدموع التي تدّعي المعارضة أنها غازات كيماوية سامة، فالأمر لم يكن يستوجب للتحقق منه سوى وضع زوج من طيور الحب على مسافة نصف كيلومتر من موضع الانفجار, فإن ماتت فهي غازات كيماوية سامة, وإن بقيت على قيد الحياة فهي قنابل مسيلة للدموع, وتلك طريقة اعتادت الجيوش على استخدامها لأن هذا النوع من الطيور يتحسس الغازات السامة قبل البشر بمسافة تزيد عن كيلومترين فتهيج قليلاً ثم تموت, فيعرف الجيش أن العدو قصفه بغاز كيماوي. لا أعرف كيف خيّل للبعض أن الجندي يمكن أن يفجر قنبلة كيماوية سامة وهو يقف على بعد عدة أمتار منها ولا يضع قناعاً على وجهه كي لا يستنشق سمومها ويسقط أرضاً كغيره؟!. فالقنابل السامة لا تلقى عشوائياً متى ما رغب حاملها، بل قبل ذلك يتم تحديد اتجاه الرياح وسرعتها لضمان جرف غازاتها السامة باتجاه الهدف وعدم ارتدادها على مطلقها، الأمر الثاني هو أن المنطقة التي يتم تفجير قنبلة كيماوية فيها تبقى ملوثة ضمن دائرة ذات قطر محدد لمدة تتراوح ما بين ثلاثة إلى سبعة أيام, وكل من يدخلها يصاب بنفس الأعراض التي أصابت من سبقوه، فالأرض نفسها تمتص السموم وتبقى تبثّها ببطء لعدة أيام طبقاً لنوع الغاز السام. أما الأمر الثالث فهو أن أي قنبلة كيماوية - سواء غاز الخردل أم غيره - حين تنفجر ترتفع منها إلى الأعلى غيمة دخان ملون وليس أبيض, ثم يبدأ يسير باتجاه الرياح فيلوث كل منطقة يمر بها، ويعرّض سكانها إلى الخطر كونهم سوف يستنشقون هذه السموم التي ما يلبث أن يمتصها الدم وتسلك تطريقها إلى الجهاز العصبي وتؤثر على وظائفه طبقاً لنوعها. ما تقدّم هو المنطق العلمي المعروف والذي يدرّس لمختلف جيوش العام للإلمام بالأمر والوقاية من هذا السلاح الفتاك، ولعل مجرد وجود الإخوة المعتصمين في نفس مكان الانفجار لعدة أيام دون التعرض لأي أذى هو دليل قاطع على أن القنابل المستخدمة ليست إلا قنابل مسيلة للدموع ذات الأثر المحدود والتي عادة ما نراها عند نشوب شغب في أي بلد كان. ما أزعجني في الأمر كله هو طريقة التعاطي مع مثل هذه الإشاعات, أو لنقل الشكوك, فالطبيب الذي روّج موضوع الغازات السامة - وهو أخصائي تشريح دماغ - بنى رأيه على عدم تجاوب المصاب بالغاز للعلاج الإسعافي – حسب قوله – لكنه لم يضع احتمالاً أقوى هو أن العلاج فاسد طالما ظل الشباب يتجولون في موضع الانفجار دون أن يتأثروا. من جهة أخرى فإن الجهات الرسمية استعانت بلجنة مختصة حللت عينات وأكدت عدم وجود أي غاز سام, وهو تصرّف سليم جداً أن تلجأ إلى أهل الذكر المختصين, لكن كنا نتمنى بجانب ذلك شرح موضوع الغازات السامة عبر الفضائية وغيرها من وسائل الإعلام لتطمئن النفوس وتكسب أيضاً معلومة جديدة. السؤال الذي لم أجد له جواباً منطقياً هو: ما المصلحة في تخويف الناس وتشويه سمعة البلد, أليس الذي يحمل قضية وطنية نبيلة يراهن على نزاهة قضيته ومشروعيتها وإرادة المتبنين لها, فلماذا إذن اضطرت المعارضة إلى الكذب وسلاح الترهيب؟!.