لم يرتبط الذهب مع السعادة قط، كما لم يكن الذهب يوماً مصدراً وشرطاً للسعادة, أو كما يقول المناطقة: (الشرط الجامع المانع) وإلا لكان قارون سيد الأنبياء، ومعظم الجرائم تنبع من الصراع على المال والمرأة (بتحول الأنثى إلى حقل يمتلكه الذكر) بما فيها صراع الدول واشتعال الحروب. وعندما توجّه موسى عليه السلام بالدعاء الموجع على فرعون: “ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا, ربنا ليضلوا عن سبيلك, ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم”. كانت الدعوة باتجاه الأموال التي تضل عن سبيل الله (ربنا اطمس على أموالهم) باعتبار المال يمثل النفوذ والسلطان والتأثير في حياة الناس. أما نظرة القرآن للمال والثروة فمختلفة, فالقرآن اعتبر المال (خيراً) وليس شراً ولم يسمه بذلك قط (كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن ترك خيراً)، أو كما في الآية (وإنه لحب الخير لشديد) سورة “العاديات”. كما اعتبر القرآن المال (زينة) كما في الآية (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) كذلك اعتبرها (فتنة) كما في الآية (إنما أموالكم وأولادكم فتنة). كذلك اعتبر المال (قوام المجتمع) فهو العمود الفقري الذي عليه يقوم ويتكىء؛ فيجب أن يُحجر على السفهاء إذا أساءوا استخدام هذه الوسيلة؛ فالمال هنا يصبح (وظيفة) اجتماعية، كذلك يربط القرآن بين السلطان والمال (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه) والغنى والطغيان (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) سورة “القلم” لذلك لا يُنَزِّل الله الأرزاق إلا بقدر بسبب اقتران المال بالبغي (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض). ورأى أن التبذير عمل شيطاني (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) كما أنه نهى عن الإسراف (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين). ورأى أن لا يحتكر المال في يد قلة محدودة داخل المجتمع (لكي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم) بسبب بسيط أن المال دم المجتمع، وأنه ملك له يتدفق في شرايينه (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه). ورأى في تكديس المال وكنزه مصيبة اجتماعية (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) يستحق صاحبها أن يكوى وجهه بالنار, في علامة لا تزول (فتكوى بها جباههم) كما لم يعتبر المال قيمة عليا في المجتمع ترتفع بها سمعة ومقام الإنسان، كما في مجتمعاتنا المريضة المتنافسة في مرض جنون المظاهر والتفاخر بالعرض السخيف من الأشياء، وارتفاع قيم المجتمع القاروني، وهزيمة قيم العلم والفكر, فالمفكرون فقراء والجهلة متخمون بالمال (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى). وحضّ الإسلام على الإنفاق واعتبرها قرضاً يتلقاها الله منا (إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم) كما اعتبر أن أعظم فائدة واستثمار هي الإنفاق في سبيل الله (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) (وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) فالربح يتضاعف إلى 700 كما في مثل السنبلة؛ فهذه المنظومة المدهشة من حركة المال هي لضخ المال في مفاصل المجتمع؛ كي ينتعش ولا يحجز أو يكنز أو يتجمع في بؤر بعينها فيمرض المجتمع وتتآكل الطبقة الوسطى ويزداد الأغنياء غنى والفقراء فقراً، في نظرة تأسيسية إلى المال كوظيفة اجتماعية. فالذهب والمال لا يأكله الإنسان، ولكن يقضي به حوائجه، وإلا حلت عليه لعنة (ميداس) كما في الأسطورة اليونانية حينما تمنّى أن يتحول كل شيء تلامسه يداه إلى ذهب فاستحال كل شيء أصفراً رناناً بما فيه طعامه وشرابه فمات جوعاً وعطشا. والورقة المالية ليست دفتر وظائف لمن هب ودب، يكتب على ظهرها مذكراته وحساباته وكنوزه التي يجمعها، بل هي إصدار اجتماعي يجب أن يحترم ويتحرك من يد إلى أخرى دون توقيعات شخصية عليها!!.