الإصرارُ العجيبُ من قبل بعض القياداتِ الحزبية على صدِّ أي بوادر حلٍ سياسيٍ للأزمة القائمة بين السلطة والمعارضة يثيرُ علاماتِ استفهامٍ كثيرةً حول نوايا هؤلاء تجاه الوطن والشعب، وإلاّ ماذا يريدون وقد تحقق مطلبُهم الرئيس في التغيير، على الرغم من أنهم لم يكونوا يحلمون مجرد حلم بذلك قبل أشهر قليلة .. تنازلاتٌ بالجملة تُقابلُ بنفوس شراهتُها كجهنّم (هل من مزيد). مبادراتٌ لو قُدّمتْ إحداها إلى جبهة ( البوليساريو ) لانتهت قضيةُ الصحراء المغربية الملتهبة منذ سبعينيات القرن الماضي ،، ولو تم تبنّي إحداها لحل قضية دارفور لما دوّلت القضية منذ سنوات ..ولو قدَّمَ إحداها ( الدلاي لاما ) لأمضى بقية عمره في بلاده ( التبت ) بدلاً من عيشه مشرداً في الهند منذ عقود.. ومع كل تلك التنازلات والمبادرات نرى بعض السياسيين عندنا وهم يزرعون الألغام في طريق كل الحلول السياسية، ويطفئون كلَّ شمعة أمل تضيء في آخر النفق المظلم الذي دخلت فيه البلادُ منذ حوالي خمسة أشهر، فتتفتقُ عبقريتُهم باختراعٍ جديدٍ يُزيدُ الأزمة توتراً والمشهدَ احتقاناً، والطينَ بِلةً كما يُقال.. لقد أعمى الله أبصارَ وبصائرَ الكثيرين منهم، فأضحوا لا يرون إلاّ أنفسهم في الساحة فقط وباتوا يتجاهلون الغالبية المطلقة سواءً الحزبية أو الصامتة، فتراهم يكذبون الكذبة ويصدقونها، والأدهى من ذلك أنهم لا يفكرون في أيّ عواقب قد يجرجرون البلد إليها، كمن يقفز إلى البحر دون أن يتعلم السباحة مرة واحدة .. وهنا أكرّرُ ما قلته في مقالين سابقين : ( أخشى أن يكون اللهُ قد سلبَ أهلَ العقول عقولها لأنه سبحانه وتعالى في هذه الحال يريد إنفاذ أمرٍ من أموره، ونرجو أن نكون مخطئين في ذلك ونسأله اللطف بالبلاد والعباد )، أما السياسيون عندنا أو بالأحرى غالبيتهم فإنهم ومن خلال تصريحاتهم وتحركاتهم على الأرض فقد صاروا كالذي يتخبّطه الشيطانُ من المس، وإلاّ ما الذي يدفعهم إلى هذا الجنون نحو الفوضى والعنف، والمسألة برمتها قد أضحت قاب قوسين أو أدنى مما لم يكونوا يفكرون به مجرد تفكير.. والمتأملُ لكلِّ ذلك يصلُ إلى قناعةٍ تامةٍ، إمّا بأن الله سبحانه لا يريد لهؤلاء أن يصلوا إلى مُبتغاهم بسبب نواياهم الخاسرة وحقدهم الدفين على أنفسهم وعلى هذا الشعب، كونهم يعلنون صراحة بأنهم سيصبّون جامَ غضبهم على كل من خالفهم، وسينتقمون ممن تباين في الرأي معهم .. أو لأنه يريد أن يُعرّيَهم على حقيقتهم بعد أن خُدعنا بهم وبشعاراتهم سنواتٍ طوالاً، كي يوقفهم الشعبُ عند حدِّهم حتى يعودوا إلى صوابهم، ويدركوا أن التعنّتَ والإقصاءَ والتهميش والإلغاء، كُلها سياساتٌ غيرُ مجدية في زمن التعددية والشراكة والحرية الحقيقية والديمقراطية السليمة التي هي في الأصل ثقافة وتنشئة تبدأ من المنزل مروراً بالمدرسة والحي حتى الوصول إلى أعلى هرم في السلطة، وليست كما يُفكّرُ هؤلاء اليوم ( أنا ومن بعدي الطوفان ) لا نُخفي أن هذه الأزمة قد خيّبت آمالَنا في كثيرٍ من الساسة الذين كُنَّا ننظرُ إليهم بعين الاحترام والإجلال، وإن كانوا ينتمون لأحزاب قد نختلف معها في بعض الآراء، بعد أن وجدنا منهم تعنتاً لا يخدمُ غير أعداء اليمن، وكذباً مفضوحاً لا ينطلي حتى على الأطفال، وشعاراتٍ رددوها كثيراً وابتعدوا عنها بُعدَ المشرق عن المغرب، فجروا في خصومتهم، يتحدثون اليوم كلاماً مناقضاً لما كانوا يحدثونا عنه بالأمس القريب، جعلوا من الباطلِ حقاً والحق باطلاً، شككونا حتى في أمور ديننا من خلال تبريراتهم وتعليلاتهم لما يقومون به، حوّلوا الاختلافَ الذي لا يُفسدُ للود قضية إلى خلافٍ لا يمكن حلّهُ إلاّ بالاقتتال والدمار، فماذا يريدون بعد أن شقّوا العصا وبرّروا للقتل والنهب وقطع الطرقات والاعتداء على الحرمات ؟؟ ولو لم يكن غير صمتهم عن الجريمة النكراء التي استهدفت مسجداً حراماً في يومٍ حرامٍ، وفي شهرٍ حرام، ورمزُ الدولة وكبارُ قياداتها بداخله، لما غسلت عن وجوههم هذا العار، لكنهم لم يقفوا عند هذا الحد، بل إن خطيبَ جمعتهم قد زفَّ إليهم ما سمّاها بالبشرى من على المنبر، فوا أسفي أين وصلت أخلاقُ بعضنا ؟ وإلى أي منقلبٍ نحن مُنقلبون، في ظل هكذا قيادات وهكذا معتوهين ؟؟، ( فإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور) .. [email protected]