يحلم عبدالهادي العزعزي بعهد جديد للمجتمع السياسي اليمني، ودائماً ما يردد أن سبب مشكلتنا يكمن في «موت السياسة» . منذ عام كامل وأنا أراه في ساحة التغيير بصنعاء، إذ كان في بداية الثورة يقوم بالتعبئة والحشد لتنطلق المسيرات والمظاهرات، وبالتأكيد ليس من أولئك المثقفين الاستعراضيين بقدر ما يكابد فعلاً لا قولاً فقط. إنه القروي الليبرالي المتميز بالنقاش الفكري والفلسفي، إضافة الى إثارة الجدل حد الجنون، بينما يدافع عن آرائه الصاخبة بكل حزم وشفافية ومسؤولية. عضو اللجنة التنظيمية الذي لطالما اختلفنا معه حول عديد أفكار ورؤى في إطار السياسة والثورة، إلا أنه يظل دائماً ذلك المشبع بالمحبة والتسامح والعمق. البارحة فقط قال لي بينما كان البرد ينمل أطرافه في الظلام المكدس: أنت أصغر مني، فلم تعرف النوم على فرش الحصير من سعف النخل.. ولم تعرف أيضاً قمقام الجاز ولوح المعلامة الذي تحول إلى ورق على يد علي محمد سعيد. في هذا السياق يتذكر: صدقني أول شيء أثار اهتمامى في هذه الحياة هو وجود نساء عاملات في مصانع بيت هائل.. لقد كان أول شكل حداثي أثارني فعلاً، أول الثمانينيات في تعز هو النساء الذاهبات إلى مصانع الحوبان بواسطة باصات. ويستدرك: أنا مثلاً مع أن يكون وزير الخارجية محمد عبده سعيد بدلاً عن القربي.. وبالمقابل علينا إعادة الاعتبار لعلي محمد سعيد، فهو أول من شغل المرأة .. إنه التقدمي الكبير وليس هؤلاء المتشدقين باسم الحداثة للأسف. ساخراً وحزيناً من مثقفين يدّعون الحداثة ويهاجمون آراءه كان العزعزي يسرد ذلك، وفي نفس الوقت كان لاينسى أطفاله الذين لم يزرهم منذ شهور في قريته البعيدة المعلقة، دافعاً ضريبة نضاله في الساحة ودامعاً إلى الداخل. أما ما يجب أن يكون ثقافة المرحلة القادمة - برأيه – فيكمن في سؤاله التالي : «السؤال المهم الآن الذي أريد إيصاله للجميع هو كيف يمكن تجميع رأس المال لعمل شركات إنتاجية ناجحة ؟» .. في حين أن هذه الثقافة بتعبيره أيضاً لا تختلف عما عززه لي بيج في نهضة الصين الحديثة ما بعد ماو تسي. تعزيزاً لما سبق يرى العزعزي بأن رأس المال المثقف والمهموم وطنياً هو الذي يجب أن يكون زعيماً للحداثة في اليمن، كما أنه وخلافاً لكثير مثقفين نعرف آراءهم المسبقة تجاه السعودية مثلاً، وبالذات اليساريين والليبراليين يرى بأن السعودية دولة جارة، وعلينا تمتين علاقتنا بها لأن فيها 3.5ميلون مغترب يمني، مشيراً إلى أنها متواجدة في كل بيت ولا تختلف الرياض في دورها اليوم عن أديس أبابا في الأربعينيات. في هذا المنحى يؤكد علينا أن نحسن العلاقة مع السعودية، ثم يضيف بثقة تربك كل من حوله: نعم .. يكفي كذباً على أنفسنا .. هذا هو الواقع واللي مش قادر يغير وجالس ينظّر عليه أن يردع برأسه أقرب جدار. والحاصل أن العزعزي صار يشعر بتغريبة كبرى جراء كيل الاتهامات لروحه بالتواطؤ مع المشترك، فيما يعلل ذلك بالقول: إنهم لايقرأون بمنطقية واقعنا وتعقيداته، متسائلاً: إلى أين سنذهب بالثورة إذا دخلنا حرباً ؟ وهل يعقل أن تكون الثورة بلا مشروع سياسي ضامن للمستقبل بالله عليك؟. ينتمي العزعزي لحزب التجمع الوحدوي اليمني الذي أسسه المناضل الكبير الراحل عمر الجاوي، وهو إطار ليبرالي يساري يضم نخبة من مثقفين. وبالتأكيد لايجيد صاحبنا التنمق أمام السلك الدبلوماسي الذي يمتهنك في أربع بوابات حد تعليقه. إنه فقط صاحب الآراء الصادمة للمعتاد. كذلك يناضل بكل عمقه وبساطته من أجل الديمقراطية والمواطنة والكرامة، مشدداً : علينا أن نحاول إنقاذ تعز والجنوب وخلق مرجعيات مدنية للمنطقة حتى لا تسقط في يد إيران.. فنحن أعداء أنفسنا ولا أحد غيرنا.. وعلينا الخروج من النرجسية والسلبية إن أردنا التغيير. فوق هذا لا يعتبر عبد الهادي العزعزي قضية الجندر مثلاً من الأولويات الآن ، ذلك لأنه يعرف بأن «الفلاح لا يضطهد زوجته» كما يقول، وعليه فقد حثني: أرجوك .. قل لهم اصحاب الدكاكين الصغيرة يافتحي أن قضايا النسوية لا تشكل اهتماماً كبيراً بالنسبة لليمنيين الآن أكثر من تأمين الصحة والتعليم للناس وقبلهما العمل..صدقني ياصديقي عليهم أن يفكروا بأزمة المياه في الريف وإنقاذ الاقتصاد الريفي وعلاقتنا كمجتمع قبل أي شيء. أؤمن أن حياة اليمنيين اليومية تدور في ذهن العزعزي كل يوم، مكابداتهم وأحلامهم وأفراحهم الصغيرة وعنادهم الذي لاينتهي.. على أن المثقف الحقيقي هو من يتسق مع هؤلاء، والعزعزي من أكثر الناس الذين وجدتهم شظفاً ووعياً، كما هو على تمرئيات حقيقية بالناس وتطلعاتهم. في ختام حديثه معي قال: إنهم يقهرونني؛ لأنني أقف في المنطقة الفاصلة؛ لأننى أنحزت إلى مصالح الناس والعدل، ولا شيء غير الناس والعدل. مضيفاً : مع ذلك لم أتمكن من الكره يا صاحبي، فأنا فلاح يعرف حب الناس فقط.. وجدي متصوف. [email protected][email protected]