هي فكرة بحاجة إلى فهم، ومشكلة تريد حلاً، وظاهرة واقعية بحاجة إلى استقصاء واستنتاج، إنها معضلة تهز المجتمعات تبدأ كقطرة ثم مع مرور الأيام تصير سيلاً جراراً يسحب كل ما يقابله، فلا أقول ظاهرة الصراع بين الحق والباطل؛ لأنها موجودة منذ أن خلق الله تعالى هذا الإنسان على ظهر هذه البسيطة، بل في عجالة سنتحدث عن ظاهرة يصنفها البعض على أنها قديمة؛ ويثبت الواقع المعاصر أنها قديمة - حديثة في نفس الوقت وبحاجة إلى استئصال، إنها ظاهرة التعصب التي تجعل الإنسان يرى نفسه على حق، ويرى الآخر على باطل، وعليها يتم احتقار الآخرين والقدح في حقوقهم وإنسانيتهم دون فهم سليم للتعاليم الدينية. إن هذه الظاهرة لها أسباب عظمى وأشكال واسعة ومظاهر جمّة لا نستطيع حصرها هنا ولا يتسع المقام للبحث عنها؛ لكن من باب “قليل دائم ولا كثير منقطع” سأقتطف بعض هذه الأسباب والمظاهر والأشكال التي فرضها واقعنا المعاصر وأصبحنا بحاجة ماسة إلى معرفتها وتمييزها وكيف تنخر العيدان حتى تنهيها، كيف لا وتقديس الأشخاص وتقديم المصالح الخاصة على العامة ووجود جماعات في الميدان منغلقة على ذاتها لا تسمع إلا لنفسها وتمنع أتباعها من الاستماع لغيرها؛ تهز كيان المجتمعات من حيث لا تدري، كيف لا وهناك تنشئة اجتماعية تغذّي روح التعصب في الأسر والأبناء ضد اللون أو الجنس أو القبيلة؛ يغيب بموجبها التعامل الأخلاقي وفهم الدين الصحيح، كيف لا وهناك تضخيم للذات سواء ذات الشخص أم الجماعة أو الفئة أو العائلة، مقتدين بالسياسة الفرعونية التي قال عنها الله سبحانه وتعالى حاكياً عن فرعون: “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد” فصار عبرة وعظة للآخرين. إن واقعنا المعاصر أثبت أن هناك أناساً مارسوا التعصب السياسي أو الاجتماعي أو القبلي أو المذهبي أو العنصري وغيرها كوسيلة للارتزاق واستدرار الأموال دون التعاون وإحقاق الحق وإبطال الباطل حتى وصل هذا التعصب إلى الرياضة؛ وما أحداث بورسعيد الأخيرة في مصر عنها ببعيدة، إذا كان هذا التعصب قد طرقه الباطل وورث نتائج عكسية تفكك المجتمعات وتهدمها فإن سندان الحق هو المرجع والسبيل إلى العبور إلى شاطئ النجاح والخير. اليمن الجديد بحاجة إلى معرفة أن التعصب للباطل مهما استأسد فإن سيف الحق قاطع، واندحار الباطل سنّة كونية وحتمية تاريخية، وإن الباطل زهوق كما قال الله تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً” وما أجمل تفسير السعدي رحمه الله عندما قال: “هذا وصف الباطل ولكنه قد يكون له صولة ورواج إذا لم يقابله الحق، فعند مجيء الحق يضمحل الباطل، فلا يبقى له حراك، ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمات والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته...” لا يمكن أن تحرّر المجتمعات من التعصب للباطل إلا إذا فهمت تعاليم الدين الإسلامي فهماً حقيقياً وتعايشت سلماً مع غيرها، وتعاونت فيما بينها، وأنشأت أسراً قائمة على احترام الآخرين بعيدة عن الذم والشتم والتنابز بالألقاب، وقدمت المصالح العامة على المصالح الفردية، وأحقت الحق وأبطلت الباطل دون لبس فيما بينهما. إن تباشير الفجر لاحت في ثورات الربيع العربي من خلال ما رأينا من انهيار لنظم الطغاة وتآلف الطوائف فيما بينها مع الأحزاب في أيام الجُمع كأنهم في البيت العتيق هدفهم واحد، وكلمتهم واحدة، مصرّين على التغيير في الساحات وفي مؤسسات الدولة التي طفحت بالفساد وأنهكتها المصالح والمحسوبيات مما ظهر الرعب في نفوس الفاسدين، وعلموا أن رياح التغيير ستتجه نحوهم وستلقح هذه المؤسسات بإرادة أبنائها المخلصين، إنها سنّة الله في هذا الكون والذي كرّم بها هؤلاء البشر وجعلهم شعوباً وقبائل وأمرهم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأمرهم بالحكم بالعدل ومناصرة المظلومين ومحاربة تقديس البشر وإعطائهم منزلة فوق منزلتهم اقتداء بنبي الرحمة المهداة محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال فيه الله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل...) كل هذه الأمور كان هدفها محاربة التعصب للباطل وإن كان مدراً للمال الكثير، وإحقاق الحق وإن كان السير تجاهه مليئاً بالأشواك والمنغصات، فالواقع الجديد يجب أن يتعصب فيه أبناؤه إلى الحق عن طريق الاعتزاز بالشخصية الإسلامية، وبيان عظمة الدين الحنيف مصحوباً بالصدع به في كل المواطن والتزامه والثبات عليه والتضحية في سبيله وتنشئة الأجيال عليه؛ لأنه المخرج الوحيد في حل جميع الأزمات مصداقاً لقوله تعالى: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”. [email protected]