تريد أن تمارس النضال؟ تعال اغسل يديك جيداً من ذلة السؤال لدى أبي رغال وكف عن قتل عيال الناس معتذراً بعيشة العيال! واخرج على ديانة الريال ما الذي يمكن أن تسديه المارشات والعروض العسكرية في كلِّ عيدٍ من أعياد الثورات العربيَّة لوعي المُشاهد/ المواطن، سِوَى أنَّها تعزِّزُ بداخلِهِ تأليْه الثورَة ومجدَها المُستحيلُ تكرارَه، كمَا لو أنَّ ترابُط الأمعاءِ المتضوِّرةِ جُوعَاً من عظيم فضائل الثورة على أبنائها الذين اختصَّتهُم بكَرمِهَا دوناً عن أهلِ الله..! ومن تعظيم الثورة عُظِّم الثوَّار، ومن تعظيمِهم عُظِمَ “المناضلون” منهم، والمناضلونَ وصف مُبجَّل لصنفٍ من الأسماءَ التي مثَّلت إلهاماً للناس من حولها، وأثارَت عجبَهُم على ما اختُصَّت بِه من الصبرِ والإيمان بما تعملُ من أجلِه، والإيمان، ضرب من “التناحَة” الوجدانية؛ لصالح مؤثرٍ عاطفي/ عقلي، أو عاطفيّ محض، يعطي قدراً من الطمأنينة المُريحة لصاحِبها، وهيَ ما يحتاجُه هذا الإنسان المعجون بالمخاوف والقلق.. ومن الإيمان، إلى المناضل، إلى الثورة.. كلها مُطلقات في كونٍ نسبيّ.. وجِدَّاً. المُناضل؛ هذا المُصطلح الدراميُّ الغامق، المثقلُ بالشجنِ والذكريات والحنين إلى مجدٍ وكفاح – الله وحده يعلم أين يقع – المُعلَّق بالقضيَّة ورجالِها الأبطال، والفكرة التي أصبَحَت عُقدَة، بعدَ أن سالَ الدَّم، أو قرحت “العصا”، هذا المُناضل المُبجَّل، يصرُّ التاريخ في أغلب الأوقات على أن يُحابيه، وأن يضاهي بهِ المُثُل والأخلاق والمبادئ التي أسرت خيالاتِنا، ليسَ مهماً أن يكون سفاحاً أو سافلاً، المُهمّ أنَّهُ مناضِل، وتعرفون، القيم لا يوجَد لها مقياس.. والمُناضل الصرف، النموذج والقدوَة فيمَن قرأت، هو مسيح شجاع، كانت له قضيَّةُ انتدَب نفسَهُ لها، رغم أنَّها ليست قضيتهُ لوحدِه، وهو بما أوتيَ من صفاتٍ مازَ بها على من حولِه، أصبحَ راهِبَها الأكبر، وضحيَّتها المحبوبُ، الذي يبذُلُ ما أمكنَهُ من أجل إسعاد الآخرين والدفاع عنهم.. لقد انقضت الطفولة وبعدها المُراهقة على حُلم “المُخلِّص”، قبل أن يتطوَّر إلى النبيّ، ثم المناضل في آخر الأمر، ومن مظاهرات رفض احتلال العراق، والتضامن مع المقاومة الفلسطينية، وحتى مظاهرات الشعب يريد، كان “المناضل” شيفرة الرضا عن الذات المشفوعُ بتوكيدات الآخر، واللقب الذي تقومُ الثورات من أجل الوصول عليه، لا من أجل الثوران عليه!. ولم يخطُر في بالي أن المناضِل؛ مقلب كبير شبيه بالتابو المحذور، يقعُ فيهِ النَّاس، ثم تنقسم المسألة بين من يعطي ومن يأخذ في هذه اللُّعبة المُسلِّية، والمبتذلة أحياناً كثيرة، ولعلّ ما جاءَ في سِفر الثورةِ الفرنسية تلك الموعظة الشهيرة “الثورة: يخطط لها العظماء، ويقوم بها الشجعان، ويرثها الأنذال!” قد قال بشكلٍ آخر: إن الأنذال هُم من يستطيعونَ إقناع أغلب الناس بكونِهم “المناضلينَ” الأفضل أو الأعظم، اخترَ التوصيف الذي يلائمك هنا..! بالنسبة لبكتيريا النضال المتناسِلَة بوفرة في اليمن؛ فقد منحتنا الشجَاعة التي لم نتخيَّلها؛ في أن يبدو بعضنا رِخاصاً، وفي أن يثور بعضنا الآخر على سليقته المَشحونة بالتدافُع للحصول على قضمة نضالٍ كبيرَة، تُساعد المرء في تجاوز إحباطاته وفشله الحياتيّ، وتُعطيهِ فرصة لاختصار الزمن ولتحقيق الإنجاز المأمول بإمكانيات نضالية بحتَة بعيداً عن استحقاقات منطقية للإنجاز لم نعُد نريد تذُّكرها الآن. لكنّ ما اتضح أن مجدَ المناضِل في أيامنا، يجيءُ على كرامَة قيَمَه التي على أساسها شُيأت شخصيتهُ فيُنهيهَا، وهذا المِحكّ كانَ الفاصِلُ بينَ المتنرجسين من ذوي الإيمانِ العالي بمطامِحهم، وبينَ المسجونِينَ بما قُيِّدوا من المفاهيم والقيَم.. ماذا لو لم يكُن المناضل شخصاً مشهوراً، أو مُحترماً، أو ذا جاه، أو غنياً، أو مُطاعاً، أو محبوباً، أو مُمتدحاً؟! ماذا لو كان المناضلُ شخصاً عادياً، لا يعرفهُ أحد، ولا يكترثُ لهُ أحد، ولا يمتلكُ شيئاً من جاه أو مال.. ما الذي سيجري للمناضلين؟!. بالتأكيد سيتناقصونَ، وجدَّاً.. وفيما سمعنا فإن المناضل حالة استثنائية، لذي وجدانٍ نقيّ، أعطى نفسُه ومُمكناته للناس وقضيتهم أو قضاياهم.. وفيما رأينا فإن المناضلَ دعيُّ القومِ “لا داعيهم”، وأكثرُهُم براعة في استلهام الفُرص لشأنِه وشأنِ خدامِه، هوَ مُمَثِّل باهر، ومقطِّبُ حاجبين من الطراز الذي يُقحمك في الفيلم من أول “قلبة صورة”، ويمتلكُ مؤخرةً متألقة في الجلوس على الأكتاف، وحنجرةً أبرع في الهتاف.. وميزاتٍ أخرى لعلّ آخرها التضحيَة..! إذاً؛ فقصَّةُ المُناضل، شبيهة بقصَّة سمير غانم في مسرحية “المتزوجون”، حيثُ أحبتهُ الفتاة لشجاعته، وأحبَّها هوَ لقصر والِدها، لعلّ الحياةَ تقومُ على هذه الشاكلة، وبهذا يستقيمُ طبعها مع الناس، لكنّ هذا يعني امتيازاً؛ أنَّ الحياة ليست ما نعتقد، ولا ما نؤمن، وأنّ ما رضعناهُ من مفاهيم وقيم وأخلاقيات لا تعني الواقع في روحِه، ولا تشرح الحياة.. وليست سوى أدوات تدجين وتنميطٍ يُراد بِها إدارة الفعل الإنسانيّ، الباحث عن تحقيق ما لا يُطيق تحقيقه!. أصبحت قيَمُنا سياطَاً للمُزايدة والانتهازية، وأصبَح نِضالُنا مدعاة للتكسُّب والابتزاز دون وجه حقّ!. هذه جنايتنا في حقنا وحقّ التاريخ، حينَ نفشلُ في صناعَة الحَضارة، ننجَحُ في خدَاع النَّاس.