القضية التي شغلت بال القوى السياسية في جميع الأقطار العربية وخرجت من أجلها ثورات الربيع العربي هي قضية الدولة التي تحقق مصلحة جميع الناس وجميع الأطراف السياسية اليمينية واليسارية وهي نفس القضية التي تسعى إليها القاعدة وأنصار الشريعة وكذلك هي الهدف الرئيسي للتمرد الحوثي، فالقاعدة تريد دولة الخلافة والحوثيون يريدون دولة الإمامة “ولاية الفقيه”، والحراك الجنوبي يبحث عن الدولة أيضاً والشعب اليمني كله يبحث عن الدولة. وهذه الدولة لم نجدها لا في أوضاع التشطير في عهدي الاستعمار والسلاطين والإمامة ولا عقب ثورة سبتمبر وأكتوبر ولا بعد قيام الوحدة، ولن نجدها بالعودة إلى أوضاع ماقبل الوحدة ناهيك عن العودة إلى أوضاع ما قبل الثورة سبتمبر وأكتوبر، طالما والجميع يسعى إلى مثل هذه الدولة بعواطفهم وليس بعقولهم وبوسائل القوة والتطرف لا بوسائل المنطق والحوار وقراءة تجارب الماضي حتى القريبة جداً منها. وفي اعتقادنا أن الثورة الشبابية الشعبية في اليمن وبخاصة عقب نجاح انتخاب الرئيس التوافقي حيث صوت الشعب لصالح استمرار المسارين السياسي والثوري خلال المرحلة الانتقالية في المستقبل، قد بدأت مباشرة مهامها الحقيقية. فلكل مسار اختصاصهُ في قضية الدولة، فالمسار السياسي معني بجوانب المتغيرات في الدولة وهذه من اختصاص النظام السياسي وتحديداً الحكومة والثورة معنية بجوانب الثوابت الوطنية وفي صدارتها الشريعة الإسلامية، والثوابت بمفهوم العصر هي الإيديولوجية. والله سبحانه وتعالى بين لنا في كتابه الكريم الفرق بين مفهومي الملك والإمامة، فالملك متغير يهبه الله لمن يشاء وينزعه ممن يشاء أما الإمامة فقد جعلها الله في إبراهيم عليه السلام وفي ذريته باستثناء الظالمين منهم فلا ينالون عهد الله، وهذه تمثل قضية الثوابت ويسميها الغربيون بالسامية. وفي العصر الأول للإسلام كانت دولة الخلافة تقوم على نظام الخلافة الذي تعاقب عليه الخلفاء الراشدون وعلى أساس الثوابت التي تمثلت في إمامة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كمسارين متوازيين إلى أن صار علي الخليفة الرابع حيث اختلط المساران وانتهت الخلافة فانقسم المسلمون إلى سنة وشيعة منذاك حتى اليوم..وإذا عدنا إلى تجربة اليمن الحديثة سنجد بأن ما كان قائماً هو شبه نظام سياسي أو شبه دولة كان الرئيس من مذهب ورئيس الوزراء من مذهب آخر وكأن الأول ومذهبه يمثلون الثوابت في الدولة والثاني يمثل المتغيرات، وكأن المذهب الذي يمثل المتغيرات ليس له ثوابت أما صاحب الثوابت فيمارس النقيضين ولا يتغير ولا يحاسب بينما الآخر هو الذي يمكن تغييره من نفس المذهب ومن المذهب الآخر وهو الذي يحاسب برغم أن المسئول هو الرئيس. هذا ما كان قائماً بعد الوحدة وقبلها في الشمال ولا يختلف الوضع والتجربة في الشطر الجنوبي سابقاً إلا بالشكل والمسميات لأن المذهب واحد، لذلك كان الرئيس في الغالب من منطقة قبلية هي أبين تشاركها الضالع بالقادة العسكريين، ورئيس الحكومة من محافظات أخرى كحضرموت، وأستمر ذلك إلى أن تفجرت الحرب بين قادة الحزب الاشتراكي وحسمت لصالح من كانوا يمثلون المتغيرات فصار الرئيس ورئيس الوزراء منهم. وعندما قامت الوحدة عادت التقسيمة كما كانت في الشمال أي الرئيس شمالي من نفس المذهب السابق ورئيس الحكومة جنوبي ولكن من نفس المذهب السابق أيضاً. فظلت مشكلة الدولة المنشودة قائمة كما كانت قبل الوحدة، مما سبب ظاهرة التمرد الحوثي والحراك الجنوبي إضافة إلى ظاهرة القاعدة.. حتى جاءت ثورة الشباب عام 2011م. ولذلك نقول إن حل قضية الدولة رهن بانجازات المسارين الثوري والسياسي معاً ولكل مهامه المباشرة، فلا يمكن ان يتولى أحدهما مهام الآخر، وشرط النجاح استمرار بقاء المسارين ومن أجل ذلك يتعين على الشباب تشكيل مجلس قيادة انتقالي لهم يضمن استمرارية الثورة وعدم تحولها إلى مجرد ظاهرة آنية هي فوضى خلاقة حسب رغبة الصهاينة ومن لف لفهم.. وعلى المجلس وشباب الساحات أن يقرروا عقد مؤتمر حوار جامع تشارك فيه جميع القوى السياسية على غرار المؤتمر نفسه الذي يهيئ له الرئيس وأطراف التوافق في الحكومة ولهم أن يشاركوا في الآخر. على أن يشمل مؤتمر الحوار تنظيم القاعدة وأنصار الشريعة لأن هؤلاء قضيتهم تتعلق بالثوابت لا بالإمارة أو النظام السياسي بعكس الحوثيين الذين يعتبرون أنفسهم هم الثوابت “الإمامة” فقط وهدفهم الإمارة والنظام السياسي لا أكثر. ولنا في شخص الإنسان كمخلوق مثل يمكن تشبيه الدولة به فالعقل في الإنسان ومركزه الدماغ يمثل قضية الثوابت في فطرة الإنسان أي رئيس الدولة، وفيه القلب الذي يمثل الحكومة والنظام السياسي المعني بالمتغيرات ولكل منهما وظيفته ولا يمكن خلط الوظيفتين معاً أو قيام أحدهما بوظيفة الآخر وكلاهما يتعلقان بالجسد الواحد كله ولا يختص أو يمثل أحدهما جزءاً من الجسم دون غيره، وإذا فسد أحدهما فسد الجسد كله وخاصة القلب. ولا غرابة في أن تهتم القوى الصهيونية ممثلة بأمريكا وحلفائها بقضية النظام السياسي حسب رغبة أبناء الشعب وقواه السياسية وليس في ذلك أي ضرر، فما يريدونه هو أن يملؤوا هم فراغ الكيان الجماهيري المعني بالثوابت لذلك يركزون على قضية دعم وتمويل المنظمات غير الحكومية كأهم وسيلة لملأ الفراغ وتطبيق الإيديولوجية الصهيونية بنفس الطريقة التي تطبق في أمريكا وفي غيرها. ولنفس السبب يخشون من القاعدة ومن أنصار الشريعة ليس لأنهم يهددون الأمن والسلام أو يشكلون خطراً عسكرياً عليهم وإنما لأنهم لا يطمحون إلى السلطة أو النظام السياسي وقضية المتغيرات ولكن لأنهم يريدون احترام ثوابت الأمة وبالذات الشريعة الإسلامية بعكس الحوثيون وأمثالهم كحزب الله في لبنان لا يعتبرهم الصهاينة إرهابيين ولا يهددون مصالحهم لان هدفهم النظام السياسي والسلطة والصهاينة لا يمانعون في ذلك،مهما رفعوا من شعارات الموت لأمريكا وإسرائيل وكذلك لا يخشون من الإخوان لنفس السبب. والمفروض ان يعي تنظيم القاعدة وأنصار الشريعة هذه الحقيقة فيسارعوا إلى الانخراط في الثورة الشعبية ويتخلوا عن أعمال العنف التي لا طائل من ورائها غير إعطاء الصهاينة فرصة التدخل واستخدامهم كورقة لتحقيق مصالحهم. والمسئولية المناطة بالرئيس الانتقالي كبيرة وخطيرة جداً وعليه التفرغ والتركيز على القضية العسكرية وقضية الثوابت والمسار الثوري بنفس اهتمامه أو أكثر في قضية المسار السياسي. فلا ينصب نفسه مسئولاً عن الثوابت كما فعل سلفه أو بدلاً عن الثوار وثورتهم كما يريده له البعض. وعلى المجلس الذي كان يرأسه باسندوة لتمثيل الثورة ان يلغى ويعاد تشكيله من قبل ثوار الساحات فلا يجوز الجمع بين المسارين تحت أي ظرف أو سبب. نكتفي بهذا القدر من التناول لقضية الدولة في هذا المقال.