زار وزير الإدارة المحلية الإدارات العامة في الديوان لمعرفة مدى الالتزام الوظيفي بالدوام ووجد أن غالبية الموظفين موجودون خارج مكاتبهم، ولمعالجة هذا الوضع أصدر تعميماً بأهمية ملازمة الموظفين لمكاتبهم ولكن هذه المشكلة لا يمكن معالجتها من خلال هكذا تعميم.. فالمعالجة تأتي من خلال ملامسة المشكلة ذاتها وتوفير متطلبات الاستقرار في العمل فلاتزال منذ أحداث الحصبة المكاتب غير مجهزة للعمل وخالية من مختلف الأجهزة المرتبطة بالعمل كمبيوترات وطابعات وتلفونات وفاكسات وغيرها.. بالإضافة للأثاث المكتبية، كما أن عدد قوى العمل تفوق قدرات المكاتب الاستيعابية بأكثر من أربعة أو خمسة أضعاف طاقتها فالإدارة العامة للإعلام والعلاقات مثلاً لديها غرف صغيرة فيها أربعة مكاتب لأربعة أشخاص هم مدراء الإدارات وبقية الموظفين والذين يتجاوز عددهم ستة عشر موظفاً لا يجدون مكاناً يجلسون عليه بينما يحتفظ بعض الوكلاء والوكلاء المساعدين بجناح كامل لكل واحد منهم. إذاً إنها ظاهرة بقاء الموظفين خارج مكاتبهم مرتبط بحل هذه المشكلة وإعادة هيكلة الوزارة وإلغاء الزوائد الميتة والتشوهات التنظيمية في الهيكل الإداري بما يتناسب وطبيعية هذه المرحلة وخصوصياتها والدور المناط بالوزارت وكذا بالمتطلبات الحقيقية للوظيفة في ظل التحول نحو اللامركزية السياسية. فالتضخم الوظيفي الذي رآه الوزير بسبب الهيكلة المرتجلة والتي وزعت مباني الوزارة إلى سبعة قطاعات وأكثر من (45) إدارة عامة غالبيتها من غير مهام. وهناك إشكاليات كثيرة مماثلة إذا وقف الوزير أمامها بتجرد وموضوعية سيكتشف أن هناك ممن يحجبون عنه الحقيقية وسيدرك بالتالي حجم المشكلة الحقيقية وإذا قام بزيارة مماثلة إلى الوحدات الإدارية سيجد ما هو أسوأ وأفظع ليس فقط في عدد المكاتب التي يحتلها وكلاؤها، وإنما بفداحة الظلم والقهر الذي يتعرض له الناس هناك ولو تعمق الأخ الوزير في هكذا مشكلة من المشكلات التي يحيلها يومياً على لجنة شئون الموظفين لأدرك أن غالبية هذه المشاكل حلها بيده وليس بيد هذه اللجنة “الشماعة” فاقدة القدرة على معالجة مشكلة موظف صغير اضطهده رئيسه المباشر أو تعرض لأجراء غير قانوني. والخطر الذي ينبغي أن يدركه الوزير يتمثل في المركزية الشديدة التي قتلت الدولة وأفقدتها جاهزيتها وقدراتها على التنظيم والعمل، وأعاقت قيام دولة في اليمن والمركزية الشديدة يعاد إنتاجها الآن بوعي وإدراك حقيقي.. وبشكل مخيف جداً.. هناك ثقافة إقصائية مخيفة تتشكل في هذه المؤسسة الحيوية. والمتابع لما ينشر في مختلف الوسائل الإعلامية عن أجهزة السلطة المحلية يصاب بالذهول، فما يجرى فيها يفوق أية توقعات، ويستحيل وجوده في مكان آخر حتى وإن كان ذلك في “جزيرة واق الواق” وفي مجتمعات الغاب. منذ فترة دلف أحدهم إلى حوش الوزارة بسيارات مختلفة تقافز من على متنها عدد كبير من المرافقين المسلحين بالملابس المدنية التقليدية، وأضعاف هذا العدد ظل في الشارع أمام بوابة الوزارة يراقب الحالة الأمنية.. المشهد كان مستفزاً جداً.. فمهما كان الوضع الأمني لهذا المسئول لا يبرر هذا الموقف وأمنه في الوزارة مسئول عنه أمن الوزارة ، وفي الديوان أيضاً مسئولون يمارسون دورهم، وإلى جانبهم ينتشر عدد من الحراسات الشخصية، ويتنقلون معهم في كل مكان يريدون الذهاب إليه في الديوان، وبأسلحة “ما أنزل الله بها من سلطان” وهذا المشهد أيضاً غير مبرر فهناك منهم أعلى جاهاً ومرتبة وعلماً ومسئولية يمارسون دورهم في الوزارة من دون حراسات. في المحافظات انفلات أمني واسع وظلم وقهر يتسع يومياً، والأوضاع في تدهور مستمر لا شيء تغير في الوزارة “فالجمعة هي الجمعة، والخطبة هي الخطبة” والتنافس يجري على اللا شيء.. الوزير السابق ترك منجزاً وحيداً في مدخل المبنى عبارة عن عمود حديدي بأنياب كثيرة بمبلغ ينيف على الثمانمائة ريال. المشكلة في تقديري تكمن في ضبابية الرؤية أو انعدامها.. قرأتُ مؤخراً قراراً أصدرته قيادة الوزارة خاص بمنح المكافآت للعاملين في الديوان، والقرار بحد ذاته يؤكد هذه الحقيقة، فالقرار وضع شروطاً للحصول على المكافآت وبطريقة لا يمكن أن يصل إليها أي موظف حتى وإن استخدم الفانوس السحري.. مطلوب لمن يريد الحصول على مكافآت أن يكون مخترعاً، وأن يكون اختراعه مرتبطاً بعمل الوزارة. ويشترط أن يكون مسجلاً وحاصلاً على براءة اختراع.. وعندما حاولت أن أتخيل طبيعة هذا الاختراع، افترضت أنه سيكون أقرب إلى تلك الأجهزة التي تستخدم في صناعة الصابون، والمواد المنظفة.. أي أن يدخل داخله مواد كيميائية لكي نحصل على رئيس وحدة إدارية بمواصفات “الإيزو العالمية” وبجودة عالية جداً، والقرار اشترط شروطاً مجحفة تندرج ضمن انتهاكات حقوق الإنسان، فالوزارة أصبحت أكثر سوءاً وتردياً من تلك الأوضاع التي كانت قائمة أيام الجنرالات الذين تعاقبوا على الوزارة. وفي الوقت الذي تتداعى فيه القوى السياسية والاجتماعية والمدنية إلى حوار وطني شامل، وفقاً لمبدأ اللامركزية نجد أن الوزارة المعنية تدير نشاطها ببيوقراطية متناهية، وتشكل وعياً بثقافة الإقصاء والاستحواذ والهيمنة، وفرض سياسة الأمر الواقع. فالكوادر المؤهلة القادرة على العطاء والإبداع لايزالون طاقة مهمشة ومجمدة يتطلب الوزير أن يخصص نصف ساعة من وقته اليومي لمقابلة موظفي كل إدارة أو قطاع لمناقشة أوضاع العمل فيها وفقاً لاتجاهات عامة لاستراتيجية وطنية لإصلاح الاختلالات في هذه المؤسسة الحيوية يتطلب أن يقضي الوزير معهم نصف ساعة أفضل حالاً من أن يقضي في المكتب ثمان ساعات، فلو فعل الوزير هذا لكان هو الرابح الوحيد لأن هذا هو الطريق الصحيح لتغيير المشهد الرتيب في الوزارة وإعادة الجاهزية والحيوية والاعتبار لهذا المرفق الحيوي. وهناك من يعيد تشكيل وعي الموظفين على أساس عدم القبول بالآخر والصدام معه وتجريده من دوره الوطني والديمقراطي، والثوري، بل إن الأمر وصل إلى حد أن ينسبوا نضالات وتضحيات الآخرين لهم.. وهذا السلوك مرفوضاً لأنه يقوم على أساس الفرز الممنهج والعمل بمبدأ العدالة والشفافية والإنصاف هو المدخل الحقيقي لإنهاء هذا الوضع. وأختتم موضوعي هذا بالتذكير بحكمة الشاعر العربي القائل: “إذا كنت تعلم فتلك مصيبة وأن كنت لا تعلم فالمصيبة أعظم”.