في شهور الزخم الثوري لساحة التغيير بصنعاء، وفي العصر الذهبي لمنصتها، تلقيت دعوة من مديرة الفقرة الأكاديمية بالمنصة، أستاذتنا الدكتورة ابتسام المتوكل، لإلقاء محاضرة حول مفهومي “الثورة والدولة المدنية”. وفي تلك الليلة طرحت على الجمهور عدداً من الأسئلة وإجاباتها حول نظرية الثورة، رأيت من اللازم أن يدركها الثوار بوضوح، لما لها من أهمية في تفسير بعض الظواهر المربكة. من بين تلك الأسئلة سؤال أولي يقول: لماذا خرجنا إلى الساحات، أو بحسب تعبير عادل إمام في مسرحية “الزعيم”: لماذا قمنا بالثورة؟!. وقد اجتهدت ليلتها في تقديم إجابة ظننتها دقيقة للغاية؛ إذ قلت في جوابي على السؤال: إن الشعور بجرح الكرامة هو الذي أخرجنا إلى الميادين، وليس الفقر أو الظلم كما يتوهم البعض. ولو كان الفقر والظلم يدفعان الناس للثورة، لما ذهب عشرات الآلاف من الفقراء والمظلومين إلى ساحة السبعين، لتأييد النظام الذي مسح بهم الأرض والسماء. وما إن انتهيت من محاضرتي حتى انقض على الميكرفون شاب صحفي أنهكه الجوع والفقر، وقال معقباً على كلامي: بل أخرجنا الجوع والفقر وليس أي شيء آخر. قلت في نفسي: قد يكون الفقر مسؤولاً عن جهل هذا الشاب بمقاصدي، لكنه بالتأكيد ليس مسؤولاً عن إخراجه إلى ساحة الثورة. إن الظلم وحده لا يدفع الناس إلى الثورة، وإنما “الشعور” به هو الذي يدفعهم إليها، وليس كل مظلوم يشعر بمظلوميته. والفرق عندي بين الذين ذهبوا إلى “الستين” والذين ذهبوا إلى “السبعين”، هو فرق في “الشعور” لا فرق في المظلومية؛ بدليل أن معظم الذين ناصروا النظام السابق ومازالوا يناصرونه، هم من الحفاة الجوعى، الذين يحرصون على تربية شواربهم أكثر مما يحرصون على تربية عقولهم ومشاعرهم. لقد كنت دائماً ما أردد، في معرض النقد لخطاب المعارضة السياسية في اليمن والوطن العربي: إن من الغباء أن يركز هذا الخطاب على مساوئ النظام ومفاسده وحدها؛ لأن هذا لا يجدي ولا يثمر إلا مع الشعوب التي لديها شعور وافر بالكرامة، أما الشعوب التي مسخت آدميتها، وتعودت على إهدار كرامتها، فلا يؤثر فيها شيئاً. ولو قلت لأحدهم: إن الحاكم يأخذ حقك وينتهك كرامتك، ويعبث بمستقبلك ومستقبل أبنائك، لقال لك بكل جبروت الجهل: هنيئاً له، أنا متنازل عن حقي وحق أولادي، المهم يرتاح هو وأولاده..!. إن مثل هذا الكائن لا يحتاج لأن تقول له: أنت مظلوم، بل هو محتاج لأن توقظ فيه آدميته التي تشعر بالظلم. وهذا لن يتحقق بمقال أو خبر صحفي، يكشف عن مفاسد الحاكم وشلته، وإنما يتحقق ببرنامج طويل ومركز، لتنمية الشعور بالكرامة والآدمية. هذا البرنامج - بطبيعته - لا يكون إلا مركباً من الفن والأدب في المقام الأول، ثم الفكر في المقام الثاني. ولهذا أقول: إن أعداء الفنون والآداب والفلسفة، هم أكبر خدام المشاريع السياسية الفاسدة والمستبدة. وقد أدرك علي صالح - بذكائه الفطري - خطورة شعور الإنسان اليمني بكرامته وآدميته، على مشروعه الشخصي في البقاء والتوريث، فعمل بكل وسيلة مستطاعة على مسخ آدمية المواطن، وسحق شعوره بكرامته. وذلك بواسطة برنامج واسع لترويج التسطيح والنفاق وقيم البلطجة. نفذته أجهزة متعددة، منها جهاز الإعلام، وجهاز المخابرات، وجهاز المشائخ، وجهاز التربية والتعليم. وقد أثمر هذا البرنامج إلى حد كبير؛ بدليل أن الرئيس السابق مازال يأكل من ثماره حتى اليوم. ومن طريف التوافقات في التحليل ما قرأته للدكتور علي الوردي بهذا الخصوص في كتابه القيم “مهزلة العقل البشري”، يقول فيه: إن الناس لم يثوروا على الطغاة الذين سفكوا دماءهم وجوعوهم وسلطوا الجلاوزة عليهم يضربون ظهورهم العارية بالسياط؛ ذلك لأن الناس قد اعتادوا على ذلك منذ زمن مضى، وألفوه جيلاً بعد جيل، فهم يحسبونه أمراً طبيعياً لا فائدة من الاعتراض عليه. ولكنهم يثورون ثورة عارمة عندما تنتشر فيهم مبادئ اجتماعية جديدة تبعث فيهم الحماس وتمنحهم ذلاقة البيان وقوة النقد. ثم يستطرد في بيان هذه الحقيقة فيقول: يقال إن أسباب الثورة الفرنسية قد نشأت من جراء الآراء التي بثها فولتير وروسو ومونتسكيو، أكثر مما نشأت من شدة الجور أو ضيق الحال. فقد ثبت أن الفرنسيين كانوا حينذاك أرفه حالاً من شعوب روسيا وألمانيا وأسبانيا. فلماذا ثار الناس هنا ولم يثوروا هناك؟!. السبب كامن كما قلنا في شعور الناس بالظلم لا في الظلم نفسه. أ.ه. ومن المعروف أن النهضة الأوروبية، التي صارت مضرب المثل في نظرية التقدم الاجتماعي والتقني، قد سبقت بمرحلة ثقافية وأدبية وفنية، سميت بمرحلة الهيومانيزم، أي الإنسانية. وهي مرحلة تشبّع فيها العقل الأوروبي بالقيم التي تعلي من شأن الإنسان، وصلت في بعض الأحيان إلى حدود متطرفة. إذن فإن المهمة المقدسة لقوى التغيير - إن وجدت - هي العمل الدائم المستمر على تخليق هذه المشاعر والأحاسيس في وجدانات الناس، قبل الحديث عن جرائم الحكام وسياساتهم المفسدة في الأرض. وقبل الحديث الساذج عن تطبيق الشريعة، بمعانيها الشائهة التي في رؤوس كهنة الإسلام المعاصرين. أما كيف يتخلق الإحساس بالكرامة والشعور بالظلم في وجدانات الناس، فقد أجبنا عليه مرات عديدة، وسنظل نكرر الحديث فيه حتى نصاب بالإعياء، فنقول: ليس هناك من حل لهذه المعضلة سوى تنمية وعي إنساني عميق لدى الأفراد والجماعات؛ وذلك من خلال العناية الفائقة بالفنون والآداب في مناهج التربية والتعليم والإعلام والحياة العامة. وهو ما يبدو ترفاً هيناً عند معظم طلاب التغيير من الأحزاب والجماعات العربية المعاصرة.