زارني أبو رشا «كنت أعرفه من محيط الأسرة» وبعد أن سألني عن أحوالي وأحوال العمل .. طلب أن يزور ابنته رشا. رشا في الخامسة من العمر تدرس في الصف التمهيدي كان يبدو مشتاقاً لها : لم أرها من أسبوع !! سألته باستغراب : معقول !! أجابني : نحن في ثورة تركت كل شيء لهدف أسمى وهو تغيير النظام !! لم أناقشه فقد اتفقنا بعد اجتماع هيئة التدريس أن لا نتحدث عما يحدث في الوطن داخل المدرسة ، قدرنا هو أن نربي ونعلم ونهيئ لأبنائنا التلاميذ الجو النفسي المستقر والملائم لتعليمهم ، وأن لا نجعل المدرسة ساحة صراع أخرى بين وجهات نظر واتجاهات بدأت تمزق علاقتنا وروابطنا، التزمنا جميعاً وفرضنا عقوبة إدارية على من يخالف ، واتفقنا على أن تتم معالجة أي سلوك يصدر من التلاميذ بهذا الشأن بهدوء وتعقل.. ولهذا سكت .. ولم أعلق ، سوى نصيحتي له بأن من المهم لصحة ابنته النفسية ألا يتركها كل هذا الوقت دون أن يراها!! دخلت رشا ، وعندما رأت أباها .. لمعت عيناها ، وارتمت في أحضانه ، ضمها إلى صدره بعاطفة جياشة ، ثم خرج بها ليشاهد فصلها ويجالسها قليلاً.. لم أستطع أن ألجم إحساسي بالمسؤولية نحو تلميذتي ، فقررت أن أجلس قليلاً مع أبيها لعلي أستطيع أن أدفعه ألا يتركها وأن يشرف على تعليمها ولو ساعة في اليوم لما لهذا من حافز نفسي لها .. فطلبت منه بعد أن ينتهي أن يمر على الإدارة للأهمية. انشغلت قليلاً ، ورجعت فوجدته منتظراً ، وعيناه سعيدتان بعد أن قضى وقتاً قصيراً مع ابنته !! وبادرني: أعلم أني مقصر .. ولكن الوطن يحتاجني!! سألته باستفزاز : فيم يحتاجك الوطن ؟! رد مستغرباً : يا أستاذة !! نحن في ثورة تغيير ! ولابد أن نضحي كلٌ بما يستطيع!!.. كنت أعلم أنه أقفل محله ودفع كل ما يملك من مدخراته لشراء طوب وأسمنت لبناء أساسيات الخيام !! قلت : وما ذنب رشا ! أين أبوها ! هي تحتاجه ! ليس احتياجاً مادياً وإنما نفسياً ومعنوياً !! لا بد أن تحس بوجودك بجانبها ، فلست مغترباً !! أو ميتاً !! ... كنت أحدثه بقسوة .. ابتسم وقال : رشا نور عيني و حياتي ، وقد أخذتها قبل عشرة أيام إلى الساحة مع والدتها وقضينا يوماً كاملاً نتنسم الحرية ، وأخرج تلفونه ليريني صورة رشا وهي في الساحة.. ويالهول ما رأيت !! ... كانت صورتها الجميلة تطل مبتسمة بعينيها البريئتين ، ومرسوم على وجنتيها علم اليمن ، وعلى جبينها كُتبت كلمة (ارحل). صدمت .. ولم أستطع أن أتمالك نفسي..ما هذا يا أبا رشا !! هل هناك والد يفعل بابنته ما تفعله!! ابتسم ورد قائلاً : لا بد أن تعرف رشا وتفهم لماذا أنا غائب عنها!! وتعرف ماذا أفعل ليكون مستقبلها أفضل من مستقبلي !! قلت : هل جننت ، طفلة صغيرة عمرها خمس سنوات ، ماذا تفهم!! وماذا تعرف عن المستقبل ! اتق الله .. فرد وهو ما زال مبتسماً : لا بد أن تنشأ رشا على فكر أبيها !.. ماذا أفعل مع هذا الرأس المتحجر !! نظرت إليه ملياً وسألته: هل ترى الصورة التي في الجدار ؟ أجاب سريعاً : نعم ، وسيرحل قريباً!!.. هل تسمح لي أن أسألك عند دخول رشا إلى الإدارة ... وحين ترى هذه الصورة !! وتأخذها أنت إلى الساحة أو الخيمة لتتنسم الحرية..بماذا ستفكر هذه الصغيرة.. أي تناقضات ستعلق داخلها! الأطفال يا أخي العزيز لا يفهمون التعقيدات التي نعيشها ، هم يرتبطون بأبيهم وأمهم ومنهم يتعرفون على محيطهم ... يحبون فقط أو يكرهوا !! لا يعرفون الأسباب الحقيقية لهذا الحب أو الكره.. لا يفهمون في الثورة ... ولا في الفساد .. ولا في الساحة... محيطهم أسرة ... مدرسة ... أصدقاء ... أحلامهم حديقة ... ألعاب ... وقصص.. بدأ يستمع إليّ صامتاً ... وملامحه تؤمن على كلامي !!.. استماعه إليّ شجعني .. واستمررت ... رشا تريد حضن أبيها .. لتحس بدفء الوطن .. رشا تريد حباً بلا حدود .. لتحب هذا الوطن .. رشا تريد بيئة نفسية متوازنة .. لتخدم هذا الوطن بحب.. رشا تريد حديقة ... وزهوراً .. وألعاباً .. لتعيش طفولتها ، وأنت تأخذها إلى ساحة يختلط فيها الحابل بالنابل ، وتجرح أذنيها بهتافات وشعارات لا تفهم منها .. إلا أن تكره !! كانت عيناه تلمعان .. وأحسست أن دمعته ستسقط .. خففت من وطأ كلامي .. يا أبا رشا صدقني .... الوطن غالٍ بأبنائه .... الوطن ليس حجارة .... وطوباً .. وشوارع .. الوطن أبناء نغمرهم بالحب ليحبوا وطنهم .. لا بد أن نحبهم .. ونعلمهم .. ونزرع الثقة في أنفسهم .. ونربيهم على نهج قرآننا وسنة نبينا ... لا بد أن نعلمهم كيف يحافظون على حقوقهم... ليدافعوا عنها.. لا بد أن نعلمهم ما هي واجباتهم .. ليحرصوا على أدائها.. وسيخدمون هذا الوطن .. ولتجعل رشا تقرر عندما تكبر!!.. اعتذرت له تدخلي في حياته .. ولكن واجبي من واقع مسؤوليتي تجاه ابنته هو من دفعني لهذا التدخل .. فهي أمانة في عنقي .. وواصلت إذا لم تكن الرسالة مشتركة وواحدة في البيت والمدرسة فسنخلق جيلاً لا هدف له في المستقبل .. إلا أن يأكل ويعيش .. حتى ولو على حساب هذا الوطن.. تنهدت الصعداء وأنا أسمع وعده .. بأنه لن يأخذ رشا إلى الساحة .. وأنه سيحرص ألا يصل إلى أذنها إلا ما هو جميل .. وأن يذاكر معها كل يوم .. ولكنه .. لن يترك الساحة ..ضحكت وأنا أودعه قائلة : هذا شأنك !! فالوطن يستوعب الجميع .. ولكن ... أبعد رشا عن الساحة .. ودمتم ،،، أنتظر تجاربكم على : البريد الالكتروني([email protected]) وصفحة الفيس بوك : (www.facebook.com/amal.yoyoyo)