أوقفني في موقف الحيرة والتناقض وسألني:كيف يطالب من يرفع شعارات اللعنة على اليهود والنصاري بقانون دولي لمنع الإساءات إلى الأديان؟!. “هل يقبل أحد منكم أن يظهر فلم أمريكي او أوربي تحت عنوان “اللعنة على المسلمين” أجبته: هؤلاء طائفيون قلة لا يمثلون عموم الأمة. قال لي: الحوثيون ومن حاوثهم والسلفيون ومن سالفهم، معظم خطبائهم يدعون بهلاك اليهود والنصارى أجمعين: احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا، ويزيد بعضهم، اليوم اليوم وليس غداً, وما تزال منابركم وحتى بعض مناهجكم الدراسية تتحدث عن أحفاد القردة والخنازير وهي خرافة لا أصل لها في الشرع. وأكد لي: أنتم شعوب عاطفية لا تعرف على ماذا تتعرض، ولا بماذا تطالب، وما تطالبون به اليوم ستكونون أول من يعترض عليه غداً. سألته عن المخرج؟ أجابني: في موقف الفعل ستدرك ذلك. موقف الفعل أوقفني في موقف الفعل وقال لي: الفعل الحضاري انعاكس لمستوى التطور الذي وصل إليه الفعل الإنساني. سألته التوضيح فقال: إن للفعل الإنساني درجات ومراتب للترقي يؤكدها علماء الاجتماع، وفي أول السُلَّمْ يقع الفعل البدائي حبيس فلسفة الفعل ورد الفعل، ويمكن تسمية هذا الفعل بالفعل العفوي أو الغرائزي، يليه الفعل العاطفي ثم الفعل الرشيد ثم الفعل الموجه. وقد ظل العرب في كثير من مراحلهم التاريخية مرتهنين للفعل البدائي العفوي ولم يرتقوا إلا في أحايين قليلة إلى مستوى الفعل العاطفي الساذج ولهذا يقول شاعرهم: إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها تذكرت القربى فسالت دموعها هذه العفوية والعاطفية الساذجة جعلتكم ألعوبة سهلة في متناول الأمم التي تجاوزت مستوى الفعل البدائي والعاطفي إلى مستوى الفعل الرشيد والفعل الموجّه. وقال شارحاً: لقد جسد رسولكم الكريم أعلى مستويات الفعل الإنساني “ الفعل الموجه” في كثير من المحطات والمحكات العملية، ولعل أظهر هذه المحكات ما حدث عند التوقيع على بنود صلح الحديبية، أتذكر كيف أن الكثير من الصحابة لم يستوعبوا بنود الاتفاقية حتى أن كاتب الاتفاقية وهو أحد فضلاء الصحابة رفض بدوافع عاطفية، محو كلمة “رسول الله” ومحاها الحبيب بيده الكريمة واعتبر البعض أن الاتفاقية إعطاء للدنيّة في الدين وأكدت الأيام أن الفعل الهادف الموجه، كان أسلم وأسدد وإن لم تتقبله نفسية العربي، ولم يدرك عمر بن الخطاب أن هذا الصلح كان نصراً، حتى أنزلت سورة الفتح، وفي مستهلها {إنا فتحنا لك فتحاً مبينا} وحينها سأل الرسول: أهو فتح؟. فأجابه: نعم. وأردف موضحاً: إذا كان الفعل الموجه لا يهتدي إليه إلا القليل من الناس، فإن الواجب الأهم اليوم، هو ضرورة تربية أنفسكم وتنميتها لترتقي إلى مستوى الفعل الرشيد، وتتجاوز مرحلة الفعل البدائي والفعل العاطفي. والفعل الرشيد ليس فعلاً سهلاً لأنه يتطلب ضبط الانفعالات، وضبط إيقاع الحركة في اتجاه الهدف. وصاحب الفعل الرشيد لا يستهدف المواجهة ولا يتمنى لقاء العدو، ولكنه عندما تستلزم الضرورة الموضوعية هذه المواجهة، فإنه سرعان ما يستنفر مخزون الصمود والثبات ولا يتزعزع، ولا يُحدث في العدو حدثاً يؤثر على سير المعركة، ولا يتهافت على مغنم على حساب موقف استراتيجي، ولا يتنازل عما لا يجوز التنازل عنه، ويمتلك القدرة على المناورة، وتفكيك تحالفات الخصم،والاستفادة من تناقضات الأعداء،والدخول في تحالفات إنسانية تضامنية مشتركة مع أبناء دينه وغيرهم من أتباع الأديان والمذاهب الأخرى. وباختصار شديد فإن تأمل سيرة نبيكم عليه الصلاة والسلام في غزواته الدفاعية والهجومية الاستباقية على المحاربين، ومباركته للأحلاف الخاصة بالدفاع عن حقوق الإنسان التي نظمتها منظمات المجتمع المدني في صيغتها البدائية حينها "القبائل" في حلف "الفضول" و"حلف المطيبين" وسياساته في التصالح مع خصومه كما في صلح الحديبية. إن التأمل في الخطوط العامة والتفاصيل الهامة لهذه الأفعال النبوية يجعلنا نقف على مخزون ضخم من الأفعال الرشيدة والموجهة، التي تتجاوز الأفعال العفوية والأفعال العاطفية.