كنت في طريقي نحو القاعة التي ستنعقد فيها جلسة الاستماع حول الاصلاح المؤسسي في اليمن ، وكان عليً ان أحضر ورقة عمل حول هذا المحور الحيوي الهام ورغم ان الدعوة كانت قبل الجلسة بثلاث أيام إلا انني لم استطع كتابة سطر واحد حول هذا المحور الخرافي ، فواصلت خطواتي الخجولة باتجاه القاعة التي تقع بالقرب من شارع الجمهورية الذي يصل بين بابي موسى والكبير وكنت شارد الذهن اشعر بالخجل من اصدقائي الناشطين السياسين الذين اعتمدوا عليً بالمسالة في محور الاصلاح المؤسسي ، وفي وسط الشارع تماما تسمرت في بقعتي ، واذا بالذاكرة الموروثة للمكان تأخذني إلى سبعينيات وبداية ثمانينات القرن الماضي وتعود بي إلى حضرة ( الحاج علي ) الرجل الكهل الذي كان يفترش المكان ويملأه بهجة وسعادة بدعاباته وطرافته وتلقائيته وحضوره البديع وتذكرت الحلقة الواسعة التي كان يشكلها المتسوقون والمارة حول الحاج علي . وهم يسألونه : ( بكم هذا الفانوس ياحاج ) فيجيب مداعبا : هذا فانوس من احسن الفوانيس صنعه اكبر الصناعين يلمع ويسطع ويضوي طول النهار . بس لقا دخل المغرب . ارجم به . ودور لك سراج ... وهكذا كانت كل بضاعة الحاج علي ، مجرد أدوات وشقادف قديمة متهالكة . يعرضها للبيع من اجل بث السرور وخلق المتعة والأنس في نفوس المتسوقين والمارة مقابل بعض بقش وقروش قليلة . فالقفل الذي يعرضه للبيع من احسن الاقفال لا يقدر أي سارق يكسرة . لكن انصحك قفل بابك واجلس جنبه.... ترحمت على ذلك الشيخ المبدع ، وارتبطت بضاعته الرائجة (الشقادف) بموضوع جلسة الاصلاح المؤسسي.. وبالفعل فإن كل مؤسساتنا ليست سوى شقادف مثلها مثل شقادف الحاج علي والحاج علي .. معانا مؤسسات من احسن المؤسسات فيها موظفين وموظفات وثائق وسجلات ورق وملفات مباني وعمارات مصروفات وايرادات ، ومالية وموازنات .. لكن نصيحة لقا في معك مصلحة والا معاملة ، وكل الله ودور لك شيخ يتوسط لك . لم أجد غير هذه الخاطرة من الذاكرة الشعبية لمدينة تعز القديمة لتكون محور مداخلتي في الجلسة ... فلكل مجتمع هيكليتة المؤسسية المتوارثة التي ثؤثر سلبا أو ايجاباً على انشطة المجتمع وتحدد مستوى رفاهيته، وترتبط حاجتنا الحقيقية بطموحاتنا لخلق هذه المؤسسات التي تمثل البنية الرئيسية للدولة المدنية الحديثة، لأنها في واقع الأمر ليست سوى اشكال هلامية ومسميات نتوهمها مؤسسات دولة ساهمت بسلبية ادائها بتقويض بنية النظام الحاكم التي انتفض شعبا بكاملة لاسقاطها كرد فعل طبيعي لسلبية اداء تلك المؤسسات . ومن المستغرب أن تقام فعاليات لبحث وتدارس إصلاح مؤسسات لاوجود لها على الواقع ، وللوقوف بجدية وشفافية على حقيقة الأمر الواقع ، ينبغي علينا ان نضع العربة قبل الحصان ونعمل جادين على تأسيس اركان دولة المؤسسات الفاعلة . فالاصلاح الجوهري لايمكن ان يكون حقيقيا دون تبني الدولة لخطط الاصلاح . غير ان دور الدولة منفردا لايضمن النجاح للمشروع الاصلاحي, فلابد من ضرورة تحديد وفهم وتقييم دور القوي الأخرى التي يمكنها ان تدعم او ترفض او تعوق الخطوات الاصلاحية التي تتبناها الدولة ، فالوضع السياسي الراهن القائم على التقاسم والمحاصصة وفقا لملبادرة ، يجعل الرؤية ضبابية في شكل وطبيعة هذه المؤسسات ، نظرا لغياب المشروع الوطني والدور الوطني للاحزاب السياسية التي تحتفظ لنفسها بمشاريعها التنموية في برامجها التي لن تطبق مجتمعة في وضع التقاسم القائم ، وتتربص هذه القوى اللحظة المناسبة للاعلان عن مشاريعها الذاتية لتطبيقها وفرضها على الواقع وفقا لرؤيتها لنظام الحكم وتقف هذه المعظلة كعقبة في طريق الحوار الوطني المرتقب لاستحالة التوافق حول رؤية محددة لوضع شكل وآلية مؤسسات الدولة . ويبدو جليا غياب الارادة الوطنية وحرية القرار في طبيعة الحوار الوطني الذي تجاوز النقطة الرئيسية واولوية شكل الدولة القادمة المنشودة متجاوز.اً هذا الاساس الى قضايا مفتعلة واهية أنتجها واقع سياسي يفترض ان يكون متجاوزا بواقع ثورة شعبية عارمة اطاحت بنظام لازال يعاني سكرات الموت في حاضنة المبادرة التي تستنسخ خلاياه لتبعث فيه الحياة بصيغ متجددة . ولما كانت القوى السياسية الحاضنة للثورة الشبابية الشعبية والموقعة على المبادرة ، تجد نفسها ملزمة بالسير فيما صادقت عليه بعيدا عن مطالب الجماهير باقامة دولة المؤسسات وسيادة القانون ، دفع بالبعض من شباب الثورة للاتجاه في مسار ثوري مختزل في المطالبة بالحقوق المدنية والخدمات الاساسية كالرعاية الصحية وتنفيذ المشاريع الانمائية وهي من اولويات عمل الدولة . وانشغل الثوار بهذه المطالب الثانوية بعيدا عن المطلب الثوري الاساس المتمثل بااقامة الدولة المدنية دولة المؤسسات وسيادة القانون . فنحن جميعا نكتوي بحوادث الطرق وطبيعة عمل المرور ومن عدم كفاءة نظم الرعاية الصحية ونظم التقاضي والنظام التعليمي ونظم الادارة المحلية ولكننا سنختلف بالتأكيد حول مشاريع البناء المؤسسي لهذه المواجع العامة وسنكتشف من بيننا مقاومة للخطط الجديدة للتغيير في المؤسسات التي نشتكي منها ، ولذلك من المهم ان نتعرف بواقعية على رد فعل البيئة التي تحيط بالبناء المؤسسي ، سواء داخل المؤسسة التي سيتم تطويرها او ردود الافعال العامة على مستوي المجتمع ككل, إن تهيئة المناخ للجميع ليشاركوا في تحمل مسئوليتهم في البناء المؤسسي عبر الحوار الوطني الحقيقي وتحفيز الابداع وتذكية الاحساس لدى اصحاب المشروع الثوري وانهم شركاء اساسيون ، وبدون ذلك لن يتسنى لمبادرات الاصلاح ان تثبت جذورها في الارض ... تعز نموذجاً .. الإصلاح المؤسسي من المنظور الإداري ليس عملية آنية ، وإنما هي عملية ديناميكية مستمرة باستمرار المنظمة ، و تشهدها مختلف المنظمات في كل الدول المتقدمة، والدول النامية . وحتى نحقق نموذجاً محلياً للبناء والاصلاح المؤسسي ، نقترح على حكومة الوفاق العمل في سبيل تطبيق نماذج محلية في محافظة تعز للمؤسسات النموذجية ، يمكن بعد نجاحها استنساخها وتطبيقها على بقية المحافظات والعمل وفق نظام المؤسسات التي تشكل ركائز الدولة . وهذا المقترح يقتضي على الحكومة تهيئة الأرضية الملائمة للبناء المؤسسي النموذجي في تعز ، ومنحها كافة الصلاحيات القانونية اللازمة لتطبيق نظام الحكم المحلي وادارة المحافظة وفقا للرؤية المحلية لأبناء المحافظة ومواردها المتنوعة ، القادرة على قيادة وتقديم العمل المؤسسي النموذجي . دون التدخل المركزي الاقصائي الذي لا يلبي طموح هذه المحافظة في منهجية البناء والاصلاح ، فمحافظة تعز لديها من الطاقات والموارد المادية والبشرية ، ما يؤهلها لقيادة دفة المدنية في اليمن ، وتقديم النموذج الامثل للبناء والاصلاح المؤسسي وقيام الدولة المدنية الحديثة .... بهذا نكون قد تقدمنا خطوة جادة نحو المستقبل المنشود ، مالم ستظل الايادي على الزناد ونتمترس خلف مشاريع واهمة لا تلبي سوى مصالح مراكز قوى متناحرة تسعى لنبقى تحت رحمة ووصاية الغير نستجدي العالم لاطعامنا والمبادرة للفصل في خلافاتنا حول تقاسم الغنائم ، وهي قوى لا تعمل من اجل البناء بل تنفذ إملاءات من لا يريد لنا أن نكون دولة .. ومن لايملك قوته لا يملك حريته.