يبدو أنني من أكثر الناس انزعاجاً لرحيل العميد السعيدي عن إدارة أمن تعز ,وهذا لايعني بالضرورة أنني حانق على المحافظ شوقي هائل ,فلا زلت أعتقد بأن الرجل حشر خطأ في معادلة الصراع الدائر بين قوى الخير والشر في المحافظة لغاية رخيصة هي الوقيعة بين أسرة بيت هائل وأحد الاحزاب السياسية الفاعلة التي يرى فلاقة تعز أنها مسؤلة بدرجة مباشرة عن كل البلاوي التي ألقت بضلالها على مصالحهم ,وأفقدتهم ماكانوا يتمتعون به من امتيازات سياسية ومادية طيلة عقود من الفساد ,والتسخير السياسي والحزبي للوظائف والأملاك والمناصب الرسمية للدولة ! كان قيران وشلة المنتفعين من نظام صالح قد تمكنوا من إغراق تعز في سديم الفوضى ,وعندما ترك منصبه ولاذ بالفرار عقب إجبار الرئيس السابق على التوقيع على «هزيمته وانتصار الثورة» أرسلت السلطة الجديدة العميد السعيدي إلى تعز ليعمل فيها مديرا للأمن ... ومن هنا بدأت القصة ! في الحقيقة فإن قرار تعيين السعيدي مديراً لأمن تعز لم يأت نتاج رغبة سلطوية في سد منصب أمني شاغر ,أو تعيين مدير جديد للأمن خلفا للفار المطارد ,بقدر أن ثمة توجه رسمي جاد لإخراج تعز من الحالة الأمنية بالغة التردي التي وصلت إليها بفضل قيران ورفاقه داخل الجهاز الأمني للمحافظة ,وتلك باعتقادي تمثل إحدى سمات زمن مابعد الثورة حيث على من يرغب في أن يصبح مديراً لأمن محافظة ملتهبة كتعز أن يلتزم قبل كل شيء بتنفيذ أكثر من رغبة وطنية ملحة ,وأكثر من مطلب وطني عاجل ..وبالغ الالحاح أيضا ! للوهلة الأولى بدا السعيدي مزعجا للانتفاعية المتعفنة ,وفي حالة قطيعة مقصودة مع ثقافة التودد ,والتزلف ,والاسترضاء «والتجليس» .. كان مشاكسا وعنيدا للغاية ,وحين بدأ يصطادهم واحدا تلو الآخر هبوا من جحورهم كما الملسوعين يصرخون مستنجدين أسيادهم لإنقاذهم من طوفان السعيدي التطهيري التصفوي ,ولكم أن تتمعنوا جيداّ في مؤتمرات الجندي الصحفية التي أعقبت تعيين السعيدي مديرا لأمن تعز لتروا كم كانت «لسعات السعيدي » تؤلمهم .. تلك التي كانت تتحول عبر لسان الجندي إلى قذائف شكوى ,وأنين من استراتيجية الرجل المخيفة ,ونهجه التصفوي المزلزل لأوكار الفساد والعبث .. والهمجية السياسية! أربعة أشهر كانت كافية بالنسبة لضابط أمن متمكن مثل السعيدي لكي يحقق لتعز على الصعيد الأمني ماكان في نظرنا مستحيل التحقق _ خلال سنوات على الاقل _ .. لقد أفاقت تعز من غيبوبتها الأمنية ,واستعادت جزءا كبيرا من عافيتها ,وتماثلت الحالة الأمنية للتحسن بعد سنة كاملة من التدهور والنزيف الأمني ! في ظل العميد السعيدي فقط أصبح الناس يميلون إلى الخروج من بيوتهم باستمرار والانتشار في الشوارع ,والأسواق العامة مطمئنين إلى أرواحهم وأملاكهم .. ومشدودين لحركة رجل الأمن غير المعتادة ,وتلك الدوريات والمصفحات التي تجوب شوارع المدينة وأزقتها بحثا عن بلاطجة الفوضى المبندقين ,ولعل صوت أحد الزملاء مازال يتردد في مسامعي وهو يتصل بي من صنعاء للسؤال عن الذي يجري في تعز ,وتشوقه لمعرفة قصة «تكسير الأوالي» التي اشتهرت كثيرا ,وذاع صيتها وتردد صداها في كل محافظات الوطن . إلى هنا وانتهى كرم القدر البخيل !وتجمد عسل السلطة الشحيحة !! قرار حكومي بترحيل إجباري للسعيدي من إدارة أمن تعز,وتعيين المقدشي بدلا عنه !! لقد كان بمقدور المقدشي أن يستفيد من الانجازات التي تحققت على صعيد فرض الأمن وتطبيق سيادة القانون إبان عهد السعيدي ,ويبدأ من حيث انتهى الرجل لكنه لم يفعل ! ترك الحبل معلقا على الغارب وذهب يغرق في مجالس السمر والمقيل ,لتبدأ دورة جديدة من الانحدار للحالة الأمنية مصحوبة بعودة صاخبة لثقافة التندر والسخط الشعبي من الوضع الأمني إلى واجهة المشهد العام . لست معنيا بالبحث عن الأسباب التي تقف وراء تخلي المقدشي عن مسؤلياته الأمنية , ولا متأكدا إن كان ثمة خلفية سياسية للرجل أم لا ؟! الذي أنا متأكد منه وأيضا كل أبناء تعز أن رحيل السعيدي أعاد المحافظة إلى مربع الفوضى القديمة,فقد أنطفأ وهج الأمن ,وذبلت أزهار الاستقرار المتفتحة لتوها ,وذابت الحماسة الأمنية لفرض سيادة القانون,وسقطت مهابة رجل الأمن من عيون المواطنين مجددا ,وهاهي ذي «قوارح الليل» مجهولة المصدر تسرق من تعز سكونها مرة أخرى ,والفلاقة المسلحون يغزون الشوارع ,والأسواق بتلك الملامح المتوحشة وكأن تعز لم تشهد اختفاءهم من قبل ... وكأن السعيدي كان مجرد حلم جميل سلب من طفل بريء كان قد قرر أن يخلد إلى النوم قبل أن يحين «موعد القوارح المجهولة» !!