“ارْحَلْ” لفظ عربي بصيغة الأمر جاءت أحداث ما أطلق عليها “ثورة الربيع العربي” لتخرجه من الحيز المعجمي إلى حيز الدلالة الثورية والسياسية فأصبح – كما يبدو لي- أشهر كلمة في عام 2011م, وأقوى صيغة لغوية في تاريخ الصراع بين الحاكم والمحكوم. وفي حقيقة الأمر إن هذا اللفظ بدلالته الثورية والسياسية ليس جديدًا كل الجدة, فقد استعمله جمال عبد الناصر في صرخته التحررية التي أطلقها من تعز في منتصف الستينيات, قائلاً: “على بريطانيا أن ترفع عصاها من عدن وترحل”, وقد اكتسبت هذه المقولة كاملة شهرة واسعة, ولكن ثورات الربيع العربي اختصرت حديثها الغاضب مع الحكام, فاقتصرت على لفظ “ارحل” لتكون رسالة الثورة أكثر تركيزًا وأقوى أثرًا وأوسع انتشارًا في زمن الاختصار والسرعة, وهذا ما حدث طيلة عام 2011م, مع ملاحظة أن الفرق الدقيق وغير الملاحظ بين “ارحل” القديمة و”ارحل” الجديدة أن الأولى صناعة نخبوية بامتياز, بينما الأخرى صناعة جماهيرية شعبية بامتياز أيضًا. واليوم وبعد أن حدث التغيير سواء بصيغة التسوية هنا أو بصيغة الاجتثاث هناك, هل لا يزال لفظ “ارحل” على الدلالة نفسها في ذهن مواطني دول الربيع العربي؟ وهل لا يزال هذا اللفظ يشكل سلاحًا شعبيًا يمكن أن تشهره الجماهير في وجه رجالات الإفساد والتسلط؟ وهل حقًا أن هذا اللفظ اكتسب هذه الدلالة السياسية في فترة معينة انتهت وانتهى معها ليعود كما كان لفظًا معجميًا ليس له غير دلالة الرحيل/ السفر من مكان إلى آخر؟ لقد أخبرني أحد الموظفين في مرفق حكومي أن مدير هذا المرفق امتنع عن صرف مستحقات موظفيه, وحين هدده مع بعض زملائه بالاعتصام والمناداة برحيله قال لهم: كلمة “ارحل” انتهى وقتها. هكذا قال. وإذا صح كلامه فإن الحقيقة تقول: إن كلمة “ارحل” لم يكن ترديدها في عام 2011م سوى حالة من الهيجان والتداعي الشعبي لم يتأسس على فكر نضالي يواجه الظلم والتسلط أينما كان ومتى ما وجد, أي كأن هذه الكلمة كانت موضة فرضت نفسها على خطاب الرفض في عام 2011م, وانتهت بانتهاء هذا العام, أو قل إنها رحلت برحيل أولئك الحكام, ولم يعد هناك ما يقتضي وجودها. ونحن لو بحثنا عن السر في اتجاه هذه الكلمة بدلالتها الجديدة نحو التلاشي والموت فسنجد أن السبب يكمن في نوعية صناعتها, فهي اليوم مصنوعة بفكر شعبي جماهيري وليس نخبويًا, واستمرارها يهدد مركزية النخبة وهيمنتها على المشهد السياسي والإداري, ولذا فمن مصلحة النخبة إماتتها, ولذا تجد اليوم أن هذا المسؤول أو ذاك – وإن كان من الذين جاءت بهم الثورة الشعبية - يكره أن تقال هذه الكلمة في وجهه, لاسيما أن كثيرًا من النخب لم ولن تريد التغيير الذي يمكّن الآخر من الجلوس على الكرسي نفسه, إلا إذا كان في هذا التغيير ترقيات وسلطات أوسع وزيادة في الدخل, وهذا في حقيقة الأمر ليس تغييرًا وإنما هو تطوير, لأن التغيير شيء آخر يتمثل في تدوير المسؤولية على الآخرين وليس في تدوير الشخص على الوظائف, أي أن المطلوب تدوير الوظيفة لا تدوير الأشخاص. والمهم أن لفظ “ارحل” بدلالته الجديدة يموت اليوم, والفكر النخبوي هو صاحب المصلحة في موته, وهذا يعني أن النخبة في وضع مهيمن ومتمركز لا يسمح لها بالاستعداد للتغيير والقبول به عن صدق وإيمان, فقد كان المنتظر أن يكون دخول النخب في ثورات الربيع العربي لنقل كلمة “ارحل” من حالة الشعار والعاطفة الثورية إلى مرحلة الفكر والثقافة المتأصلة, بحيث تغدو هذه الكلمة سلاحًا شعبيًا دائمًا في يد الجماهير لإسقاط أي صيغة للفساد والظلم والتسلط, ولكن هذا ما لم يحدث؛ لأن حدوثه يهدد مركزية النخبة, هذه النخبة التي تصر على مواصلة الهيمنة على حاضر الجماهير ومستقبلها, وتبتكر من أجل ذلك الوسائل التي تمكنها من الحفاظ على مركزيتها, وهذا يؤكده عندي مراوغة كثير من النخب اليمنية وإصرارها على البقاء تحت أي نظام سياسي, فهناك الكثير ممن لا ينشغلون بالأيديولوجيات والالتزام الفلسفي لها, وإن تظاهروا بأنهم مؤدلجون, فما يشغلهم هو الحفاظ على التمركز والبقاء والهيمنة وليس غيرها. أما الجماهير فقد كانت كلمة “ارحل” سلاحًا قويًا بيدها وهو سلاح ذو صناعة شعبية خالصة وإن كان الغرب قد تولى تهيئة المناخ لصناعته كما يرى بعضهم. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك: http://www.facebook.com/photo.php?fbid=461857853853295&set=a.188622457843504.38279.100000872529833&type=1&theater