«4» واقتضت استراتيجية الاحتلال الأجنبي لهذه المنطقة مواجهة التحولات الاجتماعية والثقافية المناهضة عبر خلق نخب ثقافية تتصدى للعدائيات المرتقبة، ونجحت هذه الاستراتيجية نجاحاً كبيراً في خلق نخبة عسكرية وأمنية على رأس القوة الأكثر تنظيماً، وهي القوات العسكرية والأمنية، وهي التي أثبتت جدارة في الحفاظ على العلاقة بين المراكز والأطراف. ومن المهم الإشارة إلى أن المدن الجديدة اجتذبت إلى متنها وهامشها جماهير غفيرة من الطبقة الزراعية ومن أبناء القبائل والبدو، وهؤلاء شكلوا الجزء الأكبر الجديد، غير أن هذه القوى البشرية من الناحية الثقافية ومن حيث العادات والتقاليد ظلت على علاقة متينة، وتجلى ذلك حتى في الوحدات السكنية وأنماط المعيشة المصاحبة لهذه الهجرة الضرورية. وعمودياً لم تتحسن الشروط الموضوعية لتطور الطبقة العاملة، وظلت حبيسة الصناعات الخفيفة والخدمات الأساسية كسكك الحديد والموانئ.. إلخ. أما الصناعات النفطية والبتروكيماويات فقد ارتهنت إلى القوى البشرية العاملة من بلدان باكستان وبنجلاديش والهند حيث الأيدي العاملة الرخيصة والمخضوعة لعبودية مالية وشوفينية سلطوية، والأجيال الأولى من مهاجري الريف إلى المدن الجديدة ظلوا على ارتباط قوي بالعلاقات والثقافات المتمكنة في الأرياف، وهو الأمر الذي جعل من الصعوبة بمكان إحداث تحولات عميقة في بنية القوى البشرية المستقطبة للصناعات المحدودة في بعض البلدان كمصر وسوريا والمغرب وتونس والجزائر. وأفقياً فقد طفت إلى سطح الواقع بصورة ملفتة نخب عسكرية وثقافية، تأثرت بالنخب في المراكز الجيو – سياسية، بل وقلدتها في إعادة إنتاج ما أنتجته نخب تلك المراكز، وقامت النخب السياسية والعسكرية والثقافية على ثقافات محلية متصلبة لها رؤى متباينة أفرزتها الخلافات الكلامية والصراعات السياسية والشعوبية والقبائلية والاقتصادية، ومن أبرز هذه الثقافات التي صمدت كثيراً: 1 - الثقافة السنية ومجموعة تفرعاتها في مناطق الأطراف. 2 - الثقافة الشيعية ومجموعة تفرعاتها ولكن كأقليات في بعض المناطق، والثقافة المسيحية، والثقافة اليهودية، وثقافات عالمية حُملت على موكب الاستعمار القديم وتجلياته الاقتصادية، وأضافت الثقافة الاشتراكية المحمولة على رياح انتصار الاتحاد السوفيتي سنة 1945م بعداً عالمياً للجهاز الثقافي والمعرفي للقوى الاجتماعية المتميزة عن الشعوب، وهي التي عبرت عن نفسها في صيغ متنوعة مؤطرة في أحزاب وتنظيمات سياسية وحركات اجتماعية. ويمكن القول: إن الصيغة الأكثر اتساعاً وعمقاً هي حركة التحرر الوطني التي شكلت طاقتها الاستيعابية وقدراتها السياسية أهم سماتها، وهذه الحركة نشطت بناء على دوافع الاستعمار الفرنسي والانكليزي من أجل إجلاء الاحتلال التركي تحت مسمى (الثورة العربية) والتي قادتها القوى التقليدية حيثما وجدت قوات العثمانيين، وتغيرت البنية الطبقية لهذه الحركة التحررية بعد المد الاشتراكي الذي مثلته قوة الاتحاد السوفيتي العسكرية والسياسية والفكرية. وبحق كانت تركيا بوابة هامة للأفكار اليسارية؛ إذ في ذلك البلد الحيوي تفاعلت اليسارية الاشتراكية مع الحركة اليسارية الأوروبية (الاشتراكية والشيوعية)، وخلقت الحزب الشيوعي التركي الذي قاد عملية التأثير على بعض الشخصيات الثقافية في مصر وسوريا والعراق وبعض شمال أفريقيا، ويشاع أيضاً بأن (راغب بك) وزير خارجية الإمام يحيى بن حميد الدين كان عضواً في الحركة الشيوعية التركية، وفي فترة عودته من صنعاء وسيطرة أتاتورك على السلطة ضاق به المقام في وطنه الأصلي، وهرباً من الملاحقة والتنكيل عاد وانضم إلى بلاط الإمام يحيى..إن النخب التي نشأت في هذه المنطقة هي نتاج لبيئتها الاجتماعية والثقافية (الدينية والمذهبية والطائفية... إلخ). رابط المقال على الفيس بوك