الاختلاف رحمة مقولة صحيحة ، ولكن العلة ليس في الاختلاف وإنما في الخلاف ، فالاختلاف هو سنة الله في خلقه فالناس مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وأذواقهم وطباعهم ومداركهم “ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدة ، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم” في الحقيقة لا أزعم أبداً أنني أهل للخوض في موضوع الخلاف والاختلاف ، هذا الموضوع الممتد امتداد التاريخ البشري ، ولكني أجد نفسي مدفوعةً على طرح ما يعتلج بداخلها ، فكل يوم بل ربما كل ساعة أجد دافعاً جديداً لذلك ، فما يزال الخلاف وتداعياته السلبية تحاصرنا في كل حين ، حتى أخذ طابعاً اعتيادياً مألوفاً ، وشكل جزءاً أساسياً من أدبيات تعاملنا اليومية ، فما إن يلتقي اثنان عند نقطة معينة من الحوار ، حتى يتحول اختلاف وجهات النظر إلى خلاف ، ويتحول الخلاف إلى نزاع .. ومن المؤسف أن الخلاف في كثير من الأحيان يبدأ بفرعية صغيرة لينتهي إلى التشكيك في النوايا ، والاتهام في الدين والأخلاق .. ولتتحول النقاشات إلى نزاعات ومجادلات عقيمة إلا من سوء الظن والأحقاد وفي بعض الأحيان تختم بالخصام والقطيعة .. وللأسف أن النمط السلبي لإدارة الحوارات بين الأقطاب المختلفة هو النمط السائد على كافة المستويات ، ابتداءً من حوارات الأخوة في الأسرة الواحدة ، مروراً بزملاء العمل ، وحتى عابري السبيل ، وصولاً إلى أعلى الهرم من فرقاء الفكر أو السياسة ، والذين ما فتئوا يعملون ضرباً في الشرخ القائم بينهم ليل نهار ، حتى ما عدنا نستنكر منهم ذلك .. والواقع يؤكد لنا كل يوم قانون (أعداء الأمس أصدقاء اليوم ) فلا شيء ثابت في موازين السياسة ، وإنما المصلحة الآنية وحسب .. أما الفكر فهو المرتع الخصب للخلافات والتباينات على مر التاريخ ، وهو الراعي الرسمي لمعظم النزاعات والصراعات ، وهو المغذي والرافد الأول لكل الأنماط السلوكية الفردية أو الجماعية المتسمة بالعنف .. والأدهى من ذلك أن يستغل الفكر الديني في صبغ الاتجاهات السياسية في سبيل تمريرها وتسويغها لعامة الناس بشيء من القوة والشرعية .. وتصبح (قال الله وقال الرسول) أداة إرهاب في يد هذا الطرف أو ذاك ودعامة قوية لأصحاب هذا النهج أو ذاك .. ولكن الأمر المؤلم فعلاً أن تتمكن خلافاتنا - مهما كانت منطقية - من المساس بالأواصر الاجتماعية والأسرية ، بل وتعمل في نسيجها تمزيقاً وتفتيتا ، وقلما تتجاوزنا هذه الخلافات وتداعياتها الخطيرة ، في ظل وعي ضئيل ، وتعصب شديد ، لتتحول بيئاتنا الاجتماعية إلى محاضن للكراهية والأحقاد وسوء الظن .. وما يتبع ذلك من تراخي في العلاقات وعدم تقبل بعضنا لبعض ، بل وتنافر بين أفراد المجتمع الواحد ، مع ما في ذلك من إهدار للوقت والجهد والفكر فيما لا نفع فيه ، وفيما يعزز التخلف والركود .. وهذه هي مصيبتنا الكبرى ، فإذا لم نتجسد قول نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاَ ) فلك أن تتخيل حال هذا البنيان ، بل لا داعي لاستجلاب الخيال ، فالواقع خير شاهد على وهن وتداعي بنياننا ، وكثرة العثرات وتباطوء الخطوات خير شاهد على ذلك الخلل الكبير في بنياننا الاجتماعي ، وانعكاسات ذلك الواضحة على قدرتنا على التقدم والإنجاز ، وعلى المحصلة الإنتاجية العامة لهذا البنيان.. فإلى متى سنظل نسير بوتيرة (خطوة إلى الأمام ، خطوتين إلى الخلف )؟! متى نتحرر من هذه القيود التي ما أنزل الله بها من سلطان ؟! متى نحسن الظن ببعضنا ؟! ونستوعب بعضنا ونرمي سياط الاتهام من أيدينا؟! وننطلق إلى ميادين العمل بروحٍ حرة ، وثابة ، طموحةٍ ، نقيةٍ ، محبة ؟! رابط المقال على الفيس بوك