في البدء يحسن التأكيد على أمرين: الأول : إن المفاهيم الفكرية والمصطلحات الفلسفية محكومة بمنهج العلم بالنسبية في التعريف والتجدد في المعنى والدلالة، وبالتالي فهي متحركة مع واقعها الزماني والمكاني متجددة به دون حدود أو شروط ، ومنها مفهوم الثورة. الثاني : إن توصيف حركة الواقع الإنساني ، مشروط بمضمونها ونتائجها وفقاً لسوابق أنتجت مفاهيمها ومصطلحاتها في العلوم الإنسانية ، واستخدام هذه المفاهيم في توصيف المستجدات، محكوم بشروط المفهوم واتساق الواقعة مع دلالته، فالثورة كمفهوم ينطبق على كل واقعة اتسقت مع تعريفها ودلالتها، والموجزة إجمالاً في جذرية التغيير وشموله المتحقق بالثورة والفعل الثوري أو المحدد بالنظرية الثورية وحركتها الاجتماعية. وبناءً على ماسبق ، فإنني شخصياً على الأقل، مع تجدد المفاهيم وإعادة تأطيرها وفقاً للمتغيرات الزمانية والمكانية، مع الاحتفاظ بقدر من المنهج العلمي والتعقل لا يُدخل المفهوم واستخداماته في جدل التغاير بين الدال والمدلول، أو بين المعنى وتجسداته في الواقعة المتصفة به ، كما هو الحال القائم في الاستخدام المنفلت من أي ضوابط منهجية أو لغوية لمفهوم الثورة في وصف حركات الاحتجاج الشعبي التي شهدتها بعض الأقطار العربية في العام2011م طغى الأسلوب الدعائي للإعلام على لغة العلم والفلسفة في وصف الأحداث السياسية التي شهدتها دول الكتلة الشرقية بعد نهاية الحرب الباردة، والذي أطلق عليها الإعلام وصف الثورات لكنه نسبها إلى ألوان لا معنى لها في الحقل السياسي ولا دلالة لها في علم الاجتماع، فالثورة البرتقالية والوردية كانت خطاباً دعائياً للإعلام الموجه لم يعمل على إفراغ مفهوم الثورة من معانيه المكتسبة في الفلسفة والعلوم فحسبن بل وقف بالثورات الملونة عند الوصف دون أن يؤطر جديد الإضافة في نسق علمي متسق في التعريف والدلالة. انسحب هذا الوصف على حركات الاحتجاج الشعبي في الوطن العربي ابتداءً من تونس التي وصفت لفترة بثورة الياسمين ثم توارى هذا الوصف لصالح بديل شمل بقية الأقطار بوصف الربيع العربي ، فأصبحت تسمى ثورات الربيع العربي ، لكنها لم تتسق والتعريف السائد لمفهوم الثورة ، ولم تقدم جديدها القابل للإضافة إلى السائد والمعبر عن جديد الواقع، في الفكر والأسلوب والنتائج. ولأن مفهوم الثورة المستخدم في توصيف حركات الاحتجاج الجماهيري في بعض الأقطار العربية ، أُفرغ من معناه ودلالته المحددة قبل الحدث فإن قوى كانت معادية للمفهوم رافضة لاستخدامه مثل حركات وأحزاب التيار الديني وخاصة ذات النزعة السلفية منها ، استخدمت المفهوم واستخدمته في خطابها دون أدنى حرج أو تحفظ ولا حتى تبرير لتحولها منه وتفسير للمتغيرات التي اقتضت التحول من مفهوم الثورة من النقيض إلى النقيض ، غير أن قوة الواقع ومعطياته الثقافية والاجتماعية والسياسية ، فرضت على مستخدمي مفهوم الثورة الانكفاء به عن توصيف أحداث مماثلة في أقطار مثل البحرين أو سوريا، لا لأن المفهوم غير منطبق على الحالتين ، ولكن لأن الطائفية فرضت نفسها تجاه الواقع في القطرين ليكون الاستخدام معبراً عن تناقض بين قبوله في قطر ورفضه في الآخر. على كل ، يبقى الواقع حاكماً لاستخدام المفهوم على أساس الصلة المتطابقة بين معاني المفهوم ومعطيات الواقع ، فالتغيير المتحقق في الأقطار المشمولة بوصف الربيع العربي ، اقتصر على الأشخاص والأدوات ولم يصل إلى بنية النظام السياسي ووظائفه ، بل أن شمولية التغيير وجذريته لم تخرج إلى الواقع ولو نظرياً كفكر ودعوة متجسدة في حامل اجتماعي ولو محدد بقلة من النخب العربية في فئة منها ومحدودة بالمثقفين مثلاً ، ومع ذلك يستمر الخطاب الإعلامي في اجترار مفهوم الثورة على واقعة ليست كذلك وواقع لا يجسدها جزئياً أو كلياً في فعل قائم أو وعد قادم ، مع أن هذا الوصف تلاشت ألوانه التي سبق استخدامها في شرق أوروبا وآسيا الوسطى ، فهل ننتظر حر الصيف أو صقيع الشتاء ليتلاشى مفهوم الثورة عن ربيعها العربي؟ استخدام المفاهيم في غير مكانها عمل ممنهج يستهدف التضليل وتزييف الوعي، وتحقيق نتائج واقعية خارجة عن الإدراك وسيطرة الفعل الواعي على مقدماتها ومآلاتها ، وفي ذاكرتنا العربية سابقة دالة على هذا من تاريخ الاستخدام الإعلامي لمصطلح الجهاد في معارك الحرب الباردة بين القطبين بأفغانستان في ثمانينيات القرن المنصرم ، وهو المفهوم الذي أفرغ من دلالته لأغراض سياسية ، ثم استبدل بمفهوم مضاد له لنفس الحالة مع تغيير في الواقع السياسي ، فحل مفهوم الإرهاب محل مفهوم الجهاد دون عناء يذكر في تفسير التحول وأسبابه من واقع الحال أو وقائع الخطاب. وفي اليمن نجحت حركة الاحتجاج الشعبي في إنتاج فرصة سانحة لتجاوز أزمة شاملة ، غير أن وصف الثورة ، لم يجد ولن يجد معناه في واقع أو فكرة ، لذلك نخشى أن تضيع الفرصة في فراغ مفهوم الثورة من المعنى وغياب الثورة عن الواقع والفكر والحامل الاجتماعي. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك