في الذكرى الرابعة عشرة لوفاته 30 أغسطس 2013،يبلغ الشاعر اليمني الكبير عبد الله البردوني من الحضور 74 عاما وربما أضعافها فهو كجده المتنبي “يسهر الخلق جراء حروفه ويختصمون”، كل هذا العمر ونحن في علاقة وثيقة معه نصطحبه لنتعلم ولنعزز انتماءنا للعالم، ونجيب على أسئلة الثورة ونضع لبنات التحديث. وحده البردوني لم يصبه الغياب قط مذ ولد شرق ذمار في قرية بردون عام 1929م، ولم يصبه العمى مذ أكل الجدري عينيه في السنوات الأولى لطفولته، غير أن ما أصابه هو الحديث عن الغياب من جهة من يحبونه مرددين أن حضوره وغيابه تحدده الجهة الرسمية رغم حضوره الطاغي في وجدان اليمنيين كرمز قلما حظي به إنسان آخر. للبردوني طريقته في الحضور، فهو علم إذا ذكر التفت الناس وأنصتوا، فيسهل مصادفة أشخاص يحفظون قصائده عن ظهر قلب ويروونها للناس، وأن تجد أثره واضحا في إصدارات الشعراء والباحثين الشباب، وترجم الحضور العربي بحصوله على أهم الجوائز الأدبية، وعالميا بترجمة أعمال له إلى لغات عدة، كما من الصعب ذكر اليمن دون أن يُشار للبردوني كأيقونة ملهمة في تاريخها مجدد الشعر ومفكر التحديث. حلت ذكرى البردوني وقد قامت في اليمن ثورة كان يتمناها، وهي تسير اليوم في سنتها الثالثة، بعد سنتين صادفت سنتها الأولى ذكرى وفاته الثانية عشرة في أغسطس من العام 2011، كأهم ذكرى سنوية أعادت الاحتفاء به شعبيا دون ترتيب من مؤسسة خاصة أو عامة عندما كانت مجموعات من شباب الثورة في ذات العام من فبراير تعيد تمثيل قصائد ثورية قالها في ثورة 26 سبتمبر في ستينيات القرن العشرين ضد حكم إمامي، عانى منه الشاعر وسجن في سجونه بسبب مواقفه الثورية، بحشود كثيفة في الشوارع والأحياء في القرى والمدن. وحولوها إلى شعارات وبراويز ألصقت على خيام اعتصاماتهم التي استمرت لقرابة عام في عشرات الساحات بأرجاء اليمن. وأمكن وقتها ملاحظة مدى الحضور الطاغي للبردوني والناس يستدعونه إلى كل مناسباتهم محاطا بحبهم كضمير يمثل طموحاتهم. تلت هذه الأحداث إعلان مثقفين في بيان احتجاجهم على تعامل حكومة ما بعد الثورة مع البردوني وإرثه، خاصة أن مسئولية الثقافة كانت من نصيب الثوَّار لا النظام السابق الذي أزيح رئيسه عن الحكم وتولى حزبه جزءاً من الحكومة بحسب اتفاق بينه والقوى السياسة المناهظة له والداعمة للثورة ضده. فهو اتسمت علاقته السابقة بالجهة الرسمية قبل الثورة بالحذر والتوجس والتضييق. فإرثه عالق بين إهمالها وتنازع الورثة، ترك البردوني كتبا وديوانين شعريين ورواية يمكن ضمها إلى أدب السيرة الذاتية ومجموعة مقالات فكرية لم تجمع في الصحف، وكتبا مازالت في طبعتها الأخيرة في أيامه ولم تصدر منها طبعات جديدة بخاصة الفكرية منها عدا أعماله الشعرية الكاملة التي طبعت بأخطاء لغوية في 2004 سنة كانت صنعاء عاصمة للثقافة العربية، ومنزلا صغيرا يطالب الجميع بتحويله إلى متحف. وأتبع المثقفون بيانهم بوقفة احتجاجية ولأول مرة لتشييع الثقافة إلى المقبرة، وأعلنت وزارة الثقافة كسابقاتها استجابة لم تنفذ إلى اليوم، اتفاقها مع الورثة لطبع كتابين جديدين، وشراء المنزل لتحويله إلى متحف. إهمال أم سوء فهم تعيد الذكرى الرابعة عشرة، تلك الأسئلة التي طالما سألناها حتى في حياة شاعرنا ما الذي قدمناه للشاعر العظيم عبد الله البردوني، دون أن نسأل ما الطريقة المثلى لنبادله الوفاء بالوفاء. فالمبادرات المتفرقة لأبناء البردوني وأحفاده من المثقفين والشعراء تسعى لإقناعنا بوجود مشكلة في حضور البردوني أو استمرار حضوره، وهم يعرفُون جيدا أنه أغنى عن كل تلك الدعوات التي لا تقرأ كيف كان البردوني يفكر وكيف أنه اشتغل بدأب منقطع النظير على مشروعه الأدبي والفكري ليثبته في كل المراحل والفترات بل التفاصيل الرائجة كالحكايات اليومية وهو يرمي إلى أبعد مما يذهب إليه البعض من تكرار خطأ فصل مشروع البردوني عن بعضه. تعاني احتجاجاتنا التي تقصد الوفاء للبردوني “سوء فهم” ومنها القائلة بتغييب وإهمال البردوني “رسميا”، فالدولة الرسمية كانت على مر التاريخ في قطيعة مع فكر المثقف، والخلود ناتج عن احتفاء شعبي وتوثيق يقوم عليه النقاد والمفكرون والمثقفون في المقام الأول، ففي حالة البردوني كيف يمكن تغييب الحضور وإهمال الاهتمام، فالعبقريات تفرض نفسها ولو كره الكارهون. والاحتفاء الشعبي يغلب ويزيد على الاحتفاء الرسمي وهو الأبقى. أما “السيرة المهنية” للبردوني فنجدها رسمية بامتياز فهو لم يعمل عملا خاصا إلا لزمن قصير كان فيه محاميا “للمطلقات” حسب تعبيره، أما أعماله الأخرى فهي رسمية، فقد عين مدرساً للأدب العربي شعراً ونثراً في دار العلوم، وترأس لجنة النصوص في إذاعة صنعاء، بعدها عين مديراً للبرامج في الإذاعة إلى عام 1980م، واستمر في إعداد البرنامج الإذاعي (مجلة الفكر والأدب) بصورة أسبوعية طيلة الفترة من عام1964م حتى وفاته، وعمل مشرفاً ثقافياً على مجلة الجيش من 1969م إلى 1975م، كما كان له مقال أسبوعي في صحيفة 26 سبتمبر بعنوان «قضايا الفكر والأدب» ومقال أسبوعي في صحيفة الثورة بعنوان «شؤون ثقافية». لقد قضى حياته العملية كلها في “عرين الرسمية” دون أن تحوِّلِه إلى كائن له طباعها المائعة، فقد كان مخلصا لمشروعه، ومنحه ذلك مهابة. وإن عانى تضييقا في مختلف جوانب حياته إذ كانت علاقته بمن يحكومون الدولة علاقة توجس وخوف ربما منهم أكثر منه. وهو القائل يصف الطغاة: “فليقصفوا لست مقصف ، وليعنفوا أنت أعنف، فليقصفوا، لست مقصف وليعنفوا، أنت أعنف، وليحشدوا، أنت تدري أن المخيفين أخوف، أغنى، ولكن أشقى أوهى، ولكن أجلف، أبدى ولكن أخفى أخزى ولكن أصلف، لهم حديد ونار.. وهم من القش أضعف” إنها ردة فعل أبعد عن الإهمال المتعمد وأقرب إلى إخفاق عن تقييم واستيعاب هذه العبقرية المبدعة التي لا تتفق معها بأي شيء، بل هي نفسها لا تقدر على الاتفاق معها فالضدان لا يلتقيان. ما الذي أراده البردوني ؟ السؤال عما أراد البردوني لا ما نريده هو الأدق، ولمعرفة الإجابة يجدر بنا البحث في إرث البردوني الفكري بالذات.. فقد أسهم الشاعر في دفع عجلة الفكر باتجاه المستقبل، فكتب في السياسة والتأريخ والثقافة الشعبية والفن وأهم تلك الكتب “رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه”، “قضايا يمنية” ،”فنون الأدب الشعبي في اليمن”، “اليمن الجمهوري”، “الثقافة الشعبية”، “تجارب وأقاويل يمنية”، “الثقافة والثورة في اليمن” ، “من أول قصيدة إلى آخر طلقة”، “دراسة في شعر الزبيري وحياته”، “أشتات”. والعناوين تدعونا لمعرفة سبب انشغال الشاعر الفذ بالبحث والكتابة بنشاط يضاهي ما فعله في شعره. في كتبه الفكرية يمكن اعتبار البردوني المفكر اليمني الذي أسس للمدرسة الفكرية النهضوية في اليمن متأثرا بروادها العرب والعالميين، يلفت انتباهنا للديمقراطية والحكم الرشيد والانفتاح والتعايش وحرية التعبير وأهمية نضال الشعوب من أجل تحقيق سعادتها ورفاهتها، منطلقا من التاريخ إلى السياسة إلى الفن موردا تفاصيل التفاصيل منصفا للأفعال والأسماء، ومنها تلك التي مازالت تعيش بيننا مستشهدا بالمراجع والروايات، مستندا على فكرة خلق حالة جدل لتكوين اهتمام عام، لصياغة فكر يستفز الوسط العلمي الثقافي والسياسي مطلقا إشارة البدء في مجال رآه فارغا من رواده. فيما كان البردوني يكتب ويفكر لم يكن يركن على الدولة الرسمية، فهو يعرف أن الحفاظ على الفكر هي مهمة الأجيال ومثقفيها ومفكريها من قبل، وفهم مشروعه متكاملا دون تجزئة أو تفضيل ومعرفة الطريقة المثلى للتعامل مع إرثه واستكمال طريق بدأه، يقع على عاتقهم. فالأهم هو وصول أفكاره إلى كل بيت كما كان يحرص في حياته على دعم طباعة كتبه من ماله لتباع بثمن زهيد. وأهم من طباعة كتبه التي لا زالت تحت الطبع، وخلق مجتمع معرفي يؤثر فيه المثقفون والمفكرون أهم من إحياء ذكراه، والإعلاء من شأن أفكاره وتحويلها واقعاً، أهم من تحويل منزله إلى متحف إنه حديث يهمس به البردوني في كل سطر كتبه :”المهم أفكاري ولست أنا”. رابط المقال على الفيس بوك