تبدو فكرة الثورة في مفاهيمها العميقة ومدلولاتها الجسيمة اختراقاً للمعطى العام والثقافة السائدة والمجتمع القائم بكل ما يحمله من تفاصيل, أو بتعبير آخر, نقد حاد وشرس للمجتمع سياسياً وثقافياً وفكرياً واجتماعياً, وعندما تقوم ثورة ما في بلد معين بدوافع سياسية هامة؛ فإنها بالضرورة تحتضن بداخلها دوافع فكرية وثقافية واجتماعية, تحمل في بداياتها طابعاً سياسياً، إلا أنها سرعان ما تتمخض عن أهداف فكرية وثقافية تقوم على رفض القيم الاجتماعية السائدة, وتؤسس على أنقاضها قيماً اجتماعية أخرى, تهدف إلى تعزيز قيم الجمال في الإنسان والمجتمع, هذا إذا كانت الثورة ذات قيم إنسانية عليا, وإلا صارت فكرة الثورة مسخاً للنظم السابقة المستبدة, واستبدالها بأنظمة أخرى قد لا تقل عنها دموية وعنفاً, وعلى هذا تكون القيم المصاحبة للثورة ومدى تطبيقها وانتشارها معياراً هاماً من معايير نجاح الثورات, والدفع بالإنسانية نحو المستقبل الأجمل. إن هناك فاصلاً حاداً ينشأ بين مجتمع ما قبل الثورة ومجتمع ما بعد الثورة على مستوى منظومة القيم, حيث تعمل الفكرة الثورية على تقويض أركان السلطة التقليدية بكل مفرداتها القديمة والرجعية, وتعمل على ترسيخ قيم جديدة ومبادئ حديثة يكون الإنسان فيها المحور والأساس, كون الإنسان قيمة عليا تنتهي عندها كل القيم. في القرن الثامن عشر, قام البرجوازيون بثورة في فرنسا ضد طبقة الإقطاعيين, الذين استعبدوا الإنسان وأذلوه واستخدموه مرة كماكينة حصاد في فصل الربيع واستخدموه مرة أخرى كمدفأة في فصل الشتاء, وانتصرت الثورة الفرنسية, إلا أنه لم تمض سنوات عدة إلا ومارس البرجوازيون بعدها كل أنواع الانتقام بحق من ثاروا عليهم, فاستمرت فرنسا ثماني سنوات في قلق واضطراب, لأن هناك منسوباً من قيم الإنسانية كان قد تم سحقه وعدم تنميته واستثماره في حينه حتى انزاحت قيم التسامح والسلام لصالح قيم الثأر والانتقام. ولهذا يجب أن تسير قافلة القيم الإنسانية بموجهات الثقافة والفن الراقي في المجتمع اليمني بخطى أكثر حركية إذ يعول عليها إزالة كثير من “المتارس” الذهنية والمذهبية والقبلية؛ لخلق مناخ ملائم تتحد فيه هذه الموجهات للدفع بالفرد نحو قيم الذات المستقلة والخصوصية الفردية, دون الشعور مرة أخرى بحاجة اللجوء إلى نظام اجتماعي أو قبلي يقوم مقام الدولة المصغرة وخاصة في ظل غياب سلطة القانون الحامية لكل فرد, دون النظر إلى انتمائه الاجتماعي, مما يؤكد شعوره بالحاجة لنظام بديل يتولى حمايته والدفاع عنه, وفي هذا تقويض لسلطة القانون, وإسقاط لهيبة الدولة؛ وترسيخ في العقل الجمعي لحاجة ماسة ببقاء هذا النظام البديل, القائم على العنف المستمر, بسبب الحروب المتواصلة و “التمترس” الدائم خلف القيم الاجتماعية لهذا النظام البديل, في محاولة للحفاظ على الذات من أي محاولة للانفتاح على الآخر أو الذوبان فيه حتى لو كان نحو الأفضل؛ لأن هذا يهدد كيان المنظومة الاجتماعية في نظرهم ويجعلها أكثر قابلية للتمزق... لست أعني هنا التفكك الأسري أو تمزيق النسيج الاجتماعي إنما أتحدث بألم حين تكون خيمة القبيلة أكثر فاعلية من رئاسة الوزراء ومؤسسات الدولة. لماذا علينا العمل الآن بشكل أكثر جدية؟ لأن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي أكثر تعقيداً مما نتحدث, يتساءل الكثيرون متى سنضع الخطوة الأولى في الطريق الصحيح؟!. متى سنغادر هذه الحياة البرزخية التي تسمى فترة انتقالية لنبدأ في بناء دولة حديثة؟! ومتى سنعبر هذا الحقل المزروع بالألغام حتى نرفع أعيننا نحو المستقبل؟أتمنى أن لا ينتظر اليمنيون طويلاً.. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك