كل شيء يبدو غريباً وغامضاً للوهلة الأولى، ومع الأيام تتغير القناعات حين تتضح الصورة أكثر، وكثيراً ما يتصالح الناس- كل الناس- مع الظروف والواقع.. غير أن أهم ما يساعد على سرعة ثبات فكرة التصالح تلك هو حدوث تغير إيجابي في الحياة العامة، مع بقاء الحقوق والحريات، وزوال حالة اللبس والغموض في المشهد. دعونا نذهب بعيداً عن بريق الأسماء المعتادة والمتكررة في المشهد العام منذ سنين طويلة، لنبني الأحكام وفقاً للنتائج العملية للأحداث، ليعلم من مضى ومن أتى ومن سوف يأتي أن سنن الحياة تمضي، وعلينا أن نؤسس لحالة جديدة عنوانها البقاء للأفضل، ومن أجل حياة أفضل، ونطوي حقباً التبس الأمر فيها كثيراً وشاعت فيها مفاهيم خاطئة كان مبدأ البقاء للأقوى هو السائد في الثقافة العامة، وذهب الكثيرون يلهثون خلف مصالحهم، بينما ذهب عامة الناس وهم الأغلبية الساحقة نحو المعاناة والبؤس حيث لا أحد يهمه أمرهم بالدرجة الأساسية. لنعترف جميعاً أننا طيلة الفترات الماضية انشغلنا بالأقل أهمية على حساب المهم والأكثر أهمية، وإن حاولنا أن ندعي أننا مع المهم والأهم، لكن الواقع يقول غير ذلك.. الواقع يقول بأننا اختصرنا كل المهم والأهم في السلطة وذهبنا إلى الصراع عليها والعمل من أجلها.. وإلى فترة قريبة مضت كنا على قطار الوهم نسافر مدفوعين بحماسة غير مدروسة وغير ممنهجة.. لعله الربيع الذي أغرانا حيناً وأغوانا أحياناً أُخرى، فمضينا دونما إدراك لعواقب الأمور، ونسينا الناس أو تناسيناهم لا فرق فالنتيجة واحدة هي زيادة معاناتهم، وإن كانت المعاناة في ظل التناسي أشد إيلاماً. كان قطار السباق نحو المصالح بلا فرامل للتحكم بسرعته وكان من يقوده أقل وعياً بالطرقات والمنعطفات، وبما يمكن أن يحدث في حال حدوث أي عارض لا يُحسب حسابه، هكذا سارت بنا الأيام وسرنا بها فحدث ما حدث خلال الأعوام الماضية حتى اللحظة التي وصلنا فيها إلى وضع لم نعُد نقدر على فهم الكثير من الأشياء والمتغيرات، وهي متسارعة بما يصعب الإلمام بتفاصيلها، ومع كل هذا ندرك الواقع جيداً فالنتائج دائماً ملموسة ومُشاهدة.. وعلى من لم تعجبه النتائج أن يلعن الأسباب أولاً قبل كل شيء، ولكن قبل هذا عليه أن يُدرك الأسباب جيداً وعليه أن يُدرك المتسببين جيداً حتى لا يلعن نفسه على حين غفلة وعدم إدراك. نحن أمام مشهد بحاجة إلى كثير من التركيز واستيعاب الأحداث والمتغيرات، والتعاطي العقلاني معها بما يصون حياة الناس وحقوقهم وكرامتهم وحريتهم، وبما يكفل تحقيق التعايش والحفاظ على مقدرات هذا الشعب أو ما تبقى منها.. ردود الأفعال لن توصلنا إلا إلى حالة من الإضرار بمصالح العامة ومعاقبة من لا يستحق العقاب ودفع المساكين نحو المزيد من المعاناة والقهر فوق ما تراكم عليهم منذ سنين. وعلى الذين لم يستوعبوا ما حدث - وأظنهم كُثر- أن يعيدوا ترتيب أوراق الفهم ليكتشفوا سر البلاهة التي أوصلتهم إلى هذه الحالة، والسر يكمن في الأسباب لا في النتائج.. دعونا نتحدث بواقعية أكثر ونقول إن التعايش والتعاون هما الركيزة الأساسية في بناء المستقبل الذي يرتضيه الجميع، وأن الحفاظ على مصالح الناس وإزالة المعاناة اليومية للغالبية العظمى من هذا الشعب هي الهدف الأول الذي يفرض بقوة القيم والأخلاق على الجميع التعايش والتعاون، حيث لا مجال للإقصاء والحكم بالقوة والترهيب، وعدا ذلك سنجد أنفسنا مرة ثانية وثالثة إلى ما لا نهاية في أحضان الصراع، وسندخل في جولات متجددة من تصفية الحسابات، والحسابات من هذا النوع لا تنتهي ولا تكتمل سجلاتها ولا تُغلق. لا يفهم أحدهم أننا نتعاطى بسلبية مع الأحداث أو أننا نحنُّ للماضي أو نتلوّن مع الظروف، وليكن الفهم أكثر تحرراً من العصبية وردود الأفعال والأحكام المستعجلة.. لكنني أقرأ الواقع بطريقتي ولي رأيي في ما أقول، ولا أدعي الحقيقة المطلقة، وعلى الجميع تحمل نتائج أخطائهم بعد أن يعترفوا بها بشجاعة، وعليهم أن ينزلوا من على جمل العناد والمكابرة، وعليهم أن يفكروا بخطوات لتصحيح الأخطاء بما لا يضر بالناس البسطاء فهؤلاء هم من سيدفع فاتورة الأخطاء مثلما دفعوها من قبل.. البسطاء والمساكين لا يهمهم أمر السلطة والكرسي المتنازع عليه، بل يهمهم كيف يعيشون بحرية وكرامة وأمن دون صراع مع ظروف الحياة ومتطلبات المعيشة اليومية.. تصارعوا على الكراسي براحتكم ولكن لا تضروا بالمساكين من الناس، دعوهم يعيشون حياتهم بسلام، واحسبوا للعواقب جيداً، وكونوا على ثقة بأن بعد كل ما يمكن حدوثه من صراعات وحروب لابد من التعايش والمواطنة المشتركة، فماذا أنتم فاعلون؟؟