التسليح خارج المؤسسة العسكرية يترك آثاراً مدمرة على النظام والسلم الاجتماعي مستقبلاً، ويتعارض مع مبادئ وأسس الدولة المدنية.. ولنا في تاريخنا القريب عبرة.. فتجييش القبائل وتسليحهم خلال الحروب الأهلية اليمنية منذ ما يربو على نصف قرن، كان من آثارها تعثر بناء الدولة، وعدم القدرة على ضبط الأوضاع الأمنية، وعدم القدرة على التحكم بمراكز القوى وتدخلاتها في الشأن العام واتخاذ القرار، وتحولها إلى قنبلة موقوتة لتفجير الحروب الأهلية والانقضاض على مقدرات الدولة ومكتسبات المجتمع وتقويض الأمن والاستقرار.. والعبرة فيما هو حاصل في أفغانستان وباكستان، وبعض الدول الأفريقية، ولن نذهب بعيداً، فما يحدث اليوم في العراق وسوريا وليبيا خير شاهد.. وبالمقابل نجد في التجربة المغربية نموذجاً مميزاً، فقد خاض الشعب المغربي نضالاً مسلحاً عبر المراحل التاريخية، ففي التاريخ الحديث كان النظام السياسي يعمد إلى استقطاب أشخاص من أفريقيا جنوب الصحراء لتشكيل نواة جيوشه، لسبب بسيط هو أن هؤلاء ليس لهم صلة بالتركيب الاجتماعي المغربي، وبالتالي لا يدينون بأي نوع من الولاء والالتزام للقبيلة أو الجهة أو الثقافة، بل يكون ولاؤهم خالصاً للحاكم، وعندما كان يُصاب النظام الحاكم بالوهن والضعف، تقوم الزوايا الصوفية بدور تشجيعي للانخراط في المقاومة المسلحة ضد الوجود الاستعماري: البرتغالي، ومن بعده الإسباني والفرنسي، ولكن بمجرد نيل الاستقلال في 1956، عمل الملك محمد الخامس على جمع السلاح، وسن القوانين المحرمة لحيازته، واتخاذ التدابير والإجراءات الحازمة والحاسمة لتنظيف التراب المغربي من السلاح وحكره فقط على مؤسسة القوات المسلحة، وحتى قوات الأمن لا تمتلك أي نوع من الأسلحة الإستراتيجية، وعكف النظام على بناء جيش وطني الولاء والاستعداد والجاهزية للذود عن المجتمع والحفاظ على سيادة الوطن، وهذا سر تماسك الجيش وصمام أمان وحدته وقوته.. بينما في المجتمعات التي تشهد حروباً أهلية ما قبل وطنية، يكون دمج المليشيات المسلحة غير النظامية في المؤسسة الدفاعية الرسمية هو أحد أهم الشروط لوقف الاقتتال الأهلي، وبالتالي، يغيب مبدأ التربية الوطنية، ويسود مبدأ الولاء للزعيم القبلي أو السياسي الذي أسهم في دمجهم، وهذا هو التفسير المنطقي الذي تفاجأ به المجتمع اليمني بسرعة انهيار قواته المسلحة التي ظل يسهم في بنائها لأكثر من نصف قرن، أمام أي تحدٍ أو أخطار تحاط بأمن المجتمع أو تهدد سيادة الوطن وسلامة أراضيه، نتيجة غياب البناء على أساس مبدأ الولاء للوطن، حيث يلعب تعدد الولاءات دوراً حاسماً في تفكك الجيش وانقساماته.. وعلى العكس من ذلك لنا في التجربة العُمانية نموذجاً فريداً جدير بالاحتذاء، ففي الوقت الذي كادت المعارضة بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير عُمان أن تعصف بالنظام هناك، والتي كانت تتخذ من عدن مقراً مؤقتاً لأنشطتها السياسية والعسكرية في السبعينيات، وفي بداية الثمانينيات قام السلطان قابوس بإجراء سلسلة حوارات معها، تحت مرجعية وحيدة هي الحفاظ على الوطن وتقدمه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، وأسفرت عن إشراك قيادة الجبهة في أعلى المناصب، وتخويلهم صلاحيات واسعة، وأثمر ذلك عن رص الصف الوطني وبناء الدولة وتحقيق الأمن والاستقرار السياسي والنهوض الاجتماعي والتقدم الاقتصادي والتطور الثقافي.. وبالمقابل لم نمتلك نحن اليمنيون مثل هذه الجدية والصدق النابع من الحرص الوطني، في كل حواراتنا، ففي الوقت الذي كان هناك حواراً مع الجبهة الوطنية الديمقراطية في الشمال، كانت تمارس ضد قياداتها وكوادرها الاغتيالات والإخفاء القسري، والاعتقال والتعذيب، والمضايقات والإقصاء من المشاركة، وغير ذلك من الممارسات غير الوطنية، أدى إلى ضعف مبدأ الولاء الوطني، الذي تحول بدوره من الولاء للوطن إلى الولاء لأشخاص الحاكمين.. وهكذا ظلينا نقترف الأخطاء الفادحة بحق أنفسنا وبحق شعبنا وبحق وطننا وحتى اليوم، ولم نستفد منها ولم ننقد أساليبنا، ولم نسع جادين لتغيير مواقفنا، ونتصالح مع ذواتنا والآخر.. ولذلك، يكثر الحديث عقب توقيع أي اتفاق عن كونه مجرد حبر على ورق وأن العبرة بالتطبيق، وبناء على هذا الموقف وقعنا اتفاقية مصالحة مع المعارضة بقيادة الجبهة الوطنية الديمقراطية في 1983، واتفاقية الوحدة اليمنية عام 1990، وقبلها الاتفاقيات الشطرية «القاهرة وطرابلس والخرطوم والكويت»، وبعدها اتفاقية العهد والاتفاق في عمًان، عام 1994، ثم المبادرة الخليجية وأخيراً وليس الأخير اتفاق السلم والشراكة، وغيرها، جميعها تم التوقيع عليها مع سبق الإصرار والترصد بعدم الجدية وغياب الصدق والقناعة، وتم التعامل معها كوسائل لكبح جماح الطرف الآخر ولي ذراعه، ومرجعاً للتخوين والبدء بالاستعداد لجولة أخرى.. وفي ظل انفلات الوضع الأمني وتمترس الأفراد والجماعات والقبائل خلف السلاح الإستراتيجي الذي تم الاستيلاء عليه من ثكنات ومخازن ومواقع القوات المسلحة كغنائم حرب، وفي ظل وجود لجان شعبية وثورية في الشمال والجنوب، وفي ظل وجود تنظيمات إرهابية تحظى بالدعم والرعاية من نافذين في مراكز القوى، وفي ظل غياب النوايا الصادقة في خدمة مصالح الوطن العليا، وفي ظل المناكفات والتحالفات والاختلافات التي تمليها المصالح الشخصية والفئوية الضيقة، فلا جدوى لأي اتفاقات ونتائج ومخرجات طالما بقيت حبراً على ورق، وسيادة مبدأ فرض سياسة الأمر الواقع، والاحتكام للقوة، والتغطرس والتعالي وعدم الاعتراف بالآخر وحقه في المشاركة باتخاذ القرار والمواطنة على قاعدة المساواة، ولا جدوى لأي محاولات تتمترس خلف مصلحة الوطن وبناء الدولة الحديثة الكفيلة بتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية وكل أهداف التقدم واحترام حقوق الإنسان وحقوق المواطنة المنشودة.. ونختم بالقول إنه في ضوء التطورات السياسية والمستجدات المتسارعة، فإن المخرج الحقيقي من هذا الوضع التاريخي، يتوقف على مستوى الوعي الاجتماعي الذي يمكنه أن يضع حداً لكل هذا العبث وبناء أسس الدولة التي نحلم.. ولهذا اعتقد أن مصلحة المجتمع اليمني والوطن تقتضي أن يستمر الحوار بين المكونات السياسية والاجتماعية دون انقطاع، وإن طال أمده، وحتى وإن لم يثمر سريعاً، المهم أن يفضي في نهاية المطاف إلى تطبيع الأوضاع وتهيئة الأجواء للوصول بالمجتمع إلى صناديق الاقتراع للاستفتاء على الدستور والانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية، وعلينا أن لا نضيق ذرعاً بالحوار، ويجب أن يكون سقفه مفتوحاً، لا يستثني أحداً، ولا يفرض فيه مرجعيات محددة، ولا يخون أحداً، وعلى المتحاورين أن يستشعروا خطورة الوضع وجسامة المسؤولية الوطنية، ويرتقوا إلى مستوى المصلحة العليا للوطن، وتغليب مبدأ التوافق على غيره.. لأن البديل لا شك هو الحرب، خصوصاً وأن طبولها بدأت تقرع بقوة. [email protected]