نسمع كثيراً هذه الأيام جملة (ما فيش دولة)، وهي جملة تختفي وتظهر حسب الظروف والمناخات السياسية، وهي في الواقع تجسّد شعور الناس أو بعضهم تجاه وجود الدولة، وكلٌّ حسب مفهومه لمعنى الدولة ورؤيته لما ينبغي أن تكون عليه، والحقيقة هي أن المتحدث المنصف والواعي يريد دولة تسود فيها العدالة ويشعر في ظلّها بالأمن والاستقرار ويضمن فيها لقمة العيش الكريم بحرية وكرامة، وما لم تتحقق هذه المطالب بالنسبة له فلا يمكن الحديث عن وجود الدولة بأي شكل من الأشكال. حين يحسُّ أي إنسان بالظلم ثم لا يجد من يعيد له حقوقه وينصفه، وكذلك الحال عندما يحسُّ بالخوف، وحين لا يجد خدمات طبية، ولا يجد فرصاً للعمل، وحين لا يجد الطالب مدرسة أو جامعة يستطيع أن يدرس فيها دون مشقة أو عناء، وحين تكثر أعداد الفقراء والمحتاجين، ويزداد عدد المتسوّلين في الشوارع، كل ذلك يعني عدم وجود دولة، ولن تستطيع الدفاع عن الموجود منها في ظل الظواهر السابقة. يمكن لأي شخص أن يُغالط نفسه ويتحدّث عن وجود دولة في ظل الخوف والفقر والجهل والمرض وكل صور المعاناة اليومية، لكنه لا يستطيع أن يُقنع الناس بوجهة نظره هذه، فوجود الدولة له شواهد حقيقية ملموسة يتفق عليها الجميع في مشارق الأرض ومغاربها. يُقال إن الدولة هي فكرة في الوعي الجمعي للمجتمع، وفي الواقع لها كيان ووظائف، فإذا غابت عن الواقع في كيانها أو وظائفها فإنها تتآكل كفكرة في الوعي، وحين تتلاشى الدولة من الوعي تتلاشى في الواقع، والعكس صحيح تماماً، ولذلك لكي تقوم دولة أو يستمر وجودها يجب أن تكون حاضرة في ثقافة الناس ووعيهم، بمعنى الإيمان بضرورة وجود الدولة وفقاً للمفاهيم الصحيحة، لأننا نلاحظ أن ثمة من يفهم الدولة وجوداً ووظيفة على طريقته، وبما يحقق مصلحته أو مصالح حزبه أو جماعته دون اكتراث بمكوّنات المجتمع الأخرى. يجب أن يُدرك الجميع أن وجود الدولة – أية دولة – يبدأ من التفكير بمنطق الدولة، ومنطق الدولة هذا هو الوعي الكامل بضرورة وجودها كمؤسسات ونظام حكم يقوم على أُسس من العدالة والحرية والمسئولية واحترام حقوق وحريات الجميع، واحترام الاتفاقيات والعلاقات الدولية القائمة على الاستقلالية في السياسات والمواقف التي فيها ما هو ثابت، وما يقبل التنسيق والنقاش بعيداً عن التبعية المطلقة. وحين نتحدث عن منطق الدولة فهناك منطق اللا دولة، وكلما ضاق أُفق التفكير غاب شكل الدولة الحقيقي، وحضرت كيانات أخرى مسخ سرعان ما تزول. تنهار الدولة عندما تسود المفاهيم الخاطئة ، وحين تُعطّل مؤسساتها، وتُغيّب وظائفها التي تجمع الناس في كيان واحد، وعندما تتحوّل فئات المجتمع إلى فصائل متناحرة على السلطة والثروة، وتُدار مؤسسات الدولة بطريقة الاستحواذ وسياسة الإقصاء والهيمنة. هذا الوضع سوف يؤدي إلى تراجع فكرة الدولة في وعي فئات كثيرة، والنتيجة هي الفشل. هناك أسس متفق عليها في كيان الدولة ووجودها كمؤسسات وبُنى تحتية ونُظم وقوانين لا يمكن قيام دولة من غيرها، ولا يمكن أن تبقى الدولة في حال هدمها أو تعطيلها، وفي المقابل ثمة أشياء يمكن أن تختلف حولها وجهات النظر، وتخضع للدراسة والتأمل لاختيار الأفضل منها كشكل الدولة على سبيل المثال. غير أن أهم ما يمكن التحذير منه هو محاولة استنساخ شكل لدولة أو لنُظمها وقوانينها لمجرد الاستنساخ دون دراسة للظروف والواقع والثقافات التي لا شك أنها تحدد بقوة شكل الدولة وكيانها بما يضمن نجاحها واستقرارها وديمومتها.. هناك مفاهيم خاصة بالدولة من الناحية النظرية، لكن المهم هو وجودها في الواقع بما يضمن تنظيم حياة الناس. [email protected]