سألني صديق: لماذا لم تعد تكتب في الصحف؟ قلت له: لم أعد أحسن الكتابة في زمن صارت الكلمة تهمة أو موطن شبهة لصاحبها!! فقد صارت الكلمة اليوم تنافس اللحى والذقون والشوارب، فصاحب اللحية مع الذقن له تصنيف، واللحية بدون ذقن أو الذقن بدون لحية صار لأصحابها تصنيف آخر، كذلك أصحاب الشوارب لهم تصنيف آخر يختلف عن أولئك الذين لا يتركون شعرة واحدة في أي مكان من صفحة الوجه، فهم يتتبعونها بموس الحلاقة حيثما اختبأت، يتقصونها ويتحرون مكانها داخل الأنف أو الأذن أو الرقبة إلى مشارف أعلى الصدر، هؤلاء أيضاً لهم تصنيف خاص بهم وكذلك الكتابة، فالذين يقرؤون المقالات على قلتهم يبدؤون يتفحصون صور الكتاب ثم العناوين، وربما يبدأ بعضهم يسأل الآخرين عن هذا الكاتب أو ذاك، من أي حزب؟ من أي داهية؟ حسه مع من؟ وعقله مع من؟ وذاك يكتب لحساب من؟ ويبدأ التحليل والتخريف: هذا من شكله أنه أبن بطنه وذاك من شكله صاحب كيف! أما هذا فيبدو من عيونه ومناخيره وحواجب عينيه أنه ابن بطنه وابن مزاجه وهواه، ولا يكتب حرفاً واحداً إلا بقيمته لصالح أي حزب أو زعيم أو حتى أي مخرب، المهم عنده من يدفع أكثر!! وبسبب هذه السطحية والنظرة الساذجة لما يكتب في الصحف وغيرها فقد العقل وجوده كميزان توزن به الكلمات والمعاني، واختفى الحس الثقافي كأداة يوزن بها عمق الكلمة وأبعادها وأهدافها ومراميها، وجاء الأبناء يستعجلون الظهور ويتسابقون الجلوس على موائد الزعماء والوجهاء والأعيان ويحسبون أنفسهم أنهم على شيء، لأنهم لم يقرؤوا عن مصطفى كامل، ولا عن المنفلوطى ولا مصطفى صادق الرافعي وغيرهم من الشباب العربي الذين واجهوا مشاكل أمتهم وشعبهم في مصر بقدر كبير من المسئولية والأمانة، فكان طريقهم للوصول إلى سدة الثقافة الفاعلة والمؤثرة أن يقرؤوا كثيراً ويكتبوا قليلاً، أن يتعلموا أولاً اللغة العربية وقواعد اللغة والنحو والصرف، ثم يفهموا تاريخ الأمة العربية والإسلامية من مصادرها العربية والإسلامية وليس من الترجمات الغربية للإسلام وتاريخ الإسلام، فكان لابد للغربيين من تشويه التاريخ والثقافة والعقيدة لكى يطلع عليه ويقرأه أبناؤنا في اليمن وفي كل الساحة العربية والإسلامية بصورته المشوهة والممسوخة. لقد استطاع مصطفى كامل ومصطفى صادق الرافعي والمنفلوطي أن يعبدوا الطريق للأجيال من بعدهم ويزيلوا الكثير من الأشواك ويقتلعوا جذور كثير من أشجار الزقوم التي زرعها الفرنسيون والانجليز في ميادين الثقافة المصرية لتضليل الشباب وإغراقهم في مستنقعات الرذيلة والانحراف، فأين نجد أمثال مصطفى كامل والمنفلوطي والرافعي؟ أم كانت اليمن أقل حاجة من مصر لأمثال تلك القيادات المستنيرة؟ أم يمكن القول إن اليمن أقل ترحيباً بمن يريد للأمة أن تنهض من خلال اعتمادها على المبادئ والقيم والأخلاق التي سار عليها الأولون من رواد النهضة العربية والإسلامية قبل اجتياح الجيوش والثقافة الغربية لبلداننا فتلقى فيها سموم الثقافة الغربية وتولي راجعة أو عائدة إلى بلدانهم، مطمئنين إلى أنهم قد بذروا بذور السم في بلداننا فلم يعودوا بحاجة إلى جيوشهم ولا إلى أعلامهم في بلداننا، فهناك اليوم من يمثل الثقافة الغربية خير تمثيل من الكتاب والكاتبات ومن الأفراد والجماعات والكتل الصلبة والنخرة على السواء، وكم هو مؤلم ومحزن أن نجد من يشير إلى أن الكلمة صارت رخيصة ومبتذلة، حيث إن بعض الكتاب صارت بطونهم لا تفارق خيالهم وهم يكتبون مقالاتهم، فهم يأكلون ويشربون ويخزنون على حساب تلك المعاني التي تملى عليهم بكرة وعشية من أصحاب الأحزاب والزعامات. أو يبتدعون من عندهم كلاماً يرضي صاحب هذه الكلمة أو تلك! فكان لابد أن تشوه الحقائق ويفقد الناس ثقتهم بكل من يكتب وذلك بسبب غياب تمحيص القراء لما يكتب في الصحف تمحيصاً موضوعياً دقيقاً لفهم الأفكار والرؤى لكي يتسنى للقارئ أن يتعرف على الغث من السمين في خدمة القضية التي يتحدث عنها الكاتب الذي قد يكون موفقاً، وقد لا يكون موفقاً في طرحها وتبسيطها على ذلك النحو.. لكننا هنا نجد شيئاً مختلفاً تماماً في التعامل مع الكلمة، فليس المهم الفكرة ولا طريقة عرضها، وإنما المهم عند الكثيرين هو: هذا الكاتب معهم وهذا “مش معنا” وهذا ملتحٍ، وهذا لا يفارق الموس ذقنه، وهكذا لا يجد الكثيرون من الكتاب من يولي ما يكتبون أي قدر من الاهتمام بسبب هذه الروى القاصرة، ومن يدري لعلني واحداً من أولئك الكتاب الذين ما إن تقع عينا القارئ على صورتي في المقال حتى يقرر أن ما كتبته عديم النفع والفائدة، فيبحث عن من تعجبه صورته أو انتماءاته الحزبية أو الثقافية أو ما شئت من هذه الاجتماعات، فهل أدركت السر يا صديقي لماذا توقفت عن الكتابة؟. [email protected]