ارتبطت فكرة السيادة بالقدرة على تدبير الشأن العام، فالسيّد هو من يمتلك الكفاءة العالية التي تمكّنه من تدبير شؤون الجماعة لما فيه صلاحها على كافة مستويات الحياة؛ إلا أنّ البشرية في تاريخها عرفت عدّة أطر ومؤسسات كانت الحاضن لمشاريعها الحياتية بدءاً بالعائلة فالعشيرة فالقبيلة وصولاً إلى الدولة، وبما أنّ الدولة هي الشكل الأرقى للتجمّع الإنساني فإنّ مفهوم السيادة ارتبط تاريخياً بجهاز الدولة ولم يرتبط لا بالعائلة ولا بالعشيرة ولا بالقبيلة، وبالتّالي فالسّيادة الجديرة بالاهتمام والفهم في هذا السياق هي سيادة الدولة. ولذلك، لا ينبغي خرق هذه السّيادة كما لا يجب أن تكون محلّ مواجهة من حقّ المعارضة ولا من حقّ الثّورة عليها، لذلك يتّفق (هوبز) مع (بودان) في الإقرار بعدم تقسيم السّيادة، ومن هنا كان رفضه للفصل بين السّلطات، لأنّ ذلك منذر بخراب السلطة المركزيّة، فالدولة بالنّسبة له مبدأ توحيد ينقل الاجتماع البشري من حال الشّتات إلى حال النّظام، وبذلك تستجيب الدولة لمبدأ المصلحة العليا للبشر المتمثّل أساساً في ضمان الأمن والمحافظة على الحياة. إنّ تحقيق المصلحة العليا غير ممكن إلاّ بدولة قويّة، غير أنّ هذا الطابع الكلي للقوّة السيادية أبعد من أن يجعل من (هوبز) صانعاً للحكم الاستبدادي المطلق، بل الأجدر أن نتنبّه للطابع الهندسي والحسابي للجسد العام الذي يمثّل رمزاً لسلطة الدّولة أكثر منه رمزاً لسلطة الحكم، ومن هنا جاءت تصوّرات (هوبز) في مواصلة الجهد التّنظيري للدولة الحديثة المعقلنة، حيث مثّل معنى السّيادة لديه مؤشراً على بلوغ نقطة حاسمة في اتّجاه ترسيخ الأفكار السياسية الضامنة لفكرة المواطنة والسير التّدريجي نحو ترسيخ سيادة سياسية زمنية ومن صنع الإنسان. وحسب (روسو) ليست السّيادة الامتياز الذي يحصله الأمير من شعبه، بل إنّها تعود للشعب قصراً بمعنى أنها لا تفوّض.. يظلّ الشّعب هو المصدر الأصلي للسّيادة ومنه للشرعيّة؛ لذلك فالسّيادة ليست سوى الفعل الذي تتولاه الإرادة العامّة النّاتجة بدورها عن العقد الاجتماعي، بتعبير آخر فهي تقيم ضرورة في كليّة المواطنين باعتبارهم يمثّلون وجوداً كلّياً وواحداً. يوجد في الدّولة قوّة كامنة تعضدها، والإرادة العامّة هي التي تقود هذه القوة - باعتبارها ائتلاف للإرادات الفردية - وبالتالي تطبيق الإرادة العامّة في إطار دولة هو تحديداً ما يمثّل المعنى الحقّ للسيادة؛ بناء على ذلك نرى أنّ السيّد ليس سوى شخصيّة معنويّة، ليس له من وجود سوى الوجود الهلامي والجماعي، وحدها إذن سيادة الشعب ككتلة وكجسد مشروعة، وفي انتمائها إلى جسد الأمّة تبرّر عدم قابليتها للتجزئة أو القسمة، وإن ادّعت ذلك فهذا يعني أنه لا وجود البتّة لشعب، وبالتّالي لا أثر لدولة. والسّيادة كما قال (بودان) إنّها صورة الدولة، وهذا مهمّ، لكن الأهمّ هو أن نشدّد على أنّها تنتمي إلى الشعب الذي اكتسبها في سعيه لأن يكون شعباً، فهي منه وإليه، إنّها لا يمكن أن تغترب عنه أو ينازعه فيها أحد، بواسطتها وبها فحسب يتحقّق الوفاق بين الخضوع والحرّية الذي قدّمه (روسو) باعتباره ماهية الجسد السياسي. لذلك يدين (روسو) الملكية المطلقة والحكومة التمثيلية، بقوله: “إنّ السيادة لا يمكن أن تُمثّل، وللسبب نفسه لا يمكن أن تنقسم” إنّها تعكس الإرادة العامة، وهذه الإرادة لا يمكن أن تُمثّل، بلغة أوضح، سواء فوّض الشعب حاكماً أو انتخب ممثّلين عنه فالأمر سيّان، إنّه لن يعود شعباً نظراً لأنّه فرّط في سيادته، فسيادة الشعب لا يمكن تصوّرها كحضور فيزيائي أو موضوعي عبر عمليّة التمثيل، لذلك لا يمكن أن تكون السيادة حسب هذا الزّعم سوى ضرب من الخيال السياسي أو معيناً معيارياً أساسياً لبناء الدّولة. ما يمكن أن نخلص إليه إذن، أنّ نظريّات عديدة ومتمايزة دأبت على ترسيخ الحداثة السياسية، وقد اقترن ذلك بمسلّمات أساسية: ارتباط التنظير للسيادة بفكرة معقلنة لعملية التدبير السياسي؛ مما نتج عنه بناء الدولة الحديثة القائمة على القانون والمؤسسات، ثم تحييد السيادة عن كلّ إلزام أو إكراه خارجي سواء أكان ذلك طبيعياً أم دينياًَ، لذلك كان هذا التنظير إنسانياً بامتياز، وحاد عن فكرة تمركز السيادة بيد عاهل أو أمير أو مؤسسة دينية. وبالتّالي خضع هذا المفهوم إلى مسار كامل من العقلنة؛ إذ انطلق من بلورة نظرية مع (بودان) وحدّد باعتباره جوهراً للدولة وصولاً إلى انفتاحه على المؤسسات الدستورية والسياسية والمدنية، والغاية من ذلك ترسيم حدود السيادة وتأهيل مفاهيم جديدة (الشّعب والمواطنة) كمقولات سياسية مقاومة لأيّ تمركز للسلطة قد يؤدي إلى انحرافها. [email protected]