عندما نتحدث عن الناشئة فإننا نتحدث عن المستقبل، ولنا أن نتصور تركيبة الإنسان القادم الذي سماه بعض علماء الحضارة " إنسان ما بعد الإنسان " متجاوزين مقولة " إنسان ما بعد الحضارة " وعلى اعتبار أن الحضارة مقاسة بمقاييس المجتمعات الغربية، وفي هذا قدر كبير من المخاتلة والإرادوية المركزية، فالحضارة الإنسانية ليست ذات لون واحد ونمط وحيد، بل إنها تكتسي طابعاً متناسباً مع ثقافات الشعوب وخصوصياتها، فليست حضارة الغرب المادية معياراً لكل حضارة، فالتصنيف الذي جاءت به المركزية الغربية التاريخية استند على نموذج المجتمع العلماني الذي يفصل إجرائياً وعملياً بين الدين والدولة، ويعتدُّّّ بالمنجزات المادية والرفاه حد التخمة،ذلك الرفاه الذي أوصل كثرة كاثرة من مجتمعات ما يسمى بالحضارة المادية إلى تخوم التشظي المعنوي الوجودي لأفراده ممن يعانون من سيكوباتزم التملك المطلق، والإقامة الدائمة في قلق الوجود المادي، واللهاث وراء انجازات تتحول إلى " سراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء " وعدم اليقين والتسليم بالغيب . قبل حين كان منظرو " المجتمعات الألفية الفاضلة " يتحدثون عن نهاية ما للتاريخ، وكانوا فيما يفعلون ذلك يقصدون بالذات التاريخ المعروف، وعند هذه النقطة توافقت تنظيرات " نهاية التاريخ " والاستشراف للمجتمعات الإنسانية القادمة، فمنذ جمهورية أفلاطون الإفتراضية والى تخوم الترشيد لمجتمع النموذج الماركسي القائل بالانتهاء التاريخي التام من التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية التي سبقت تلك الرؤية، وصولاً الى مجتمع يكون فيه الوفر والعدل اساساً، وحتى " فوكوياما" الذي اعتبر النموذج الأمريكي نهاية المطاف في تواريخ البشرية المعروفة. كل هذه الرؤى والتنظيرات تكشّفت عن قصور مؤكد، فأفلاطون الطبقي كان يعتبر التفاوت والمراتبية الاجتماعية والعرقية والسلالية قدراً مقدور، وماركس كان يبحث عن طوباه المستحيلة، وفوكوياما أراد اقناعنا بسرمدية النموذج الأمريكي الذي سيسدل الستار عن التاريخ السابق وينهيه، حتى اذا تكشفت الحقائق لفوكوياما ارتد على عقبيه وخيراً فعل .، لكن هذه الاخفاقات والمقاربات التي خابت واقعياً لا تفسر الحقيقة المجردة التي تداهمنا في عصر الاتصال والمعلوماتية والثورة الرقمية ، حيث يتبلور الإنسان خارج المألوف التاريخي ونواميس الحضارات السابقة، ولكن دون قدرة على الإمساك بما سيأتي أو تقدير حدود الممكن عملياً .