أفتش عن الصداقة أو الزمالة البسيطة، أتوق لأنسلك في خيط ألفة ومعرفة محايدة، فتشكني إبرة المفاجأة لأولي موخوزاً مهزوزاً. حتى زملاء المدرسة الذين عرفتهم مهمشين ومكسورين قد انضووا- تحت رقاقة السكون المصطنع - في أجج الرأي المائج المضطرم داخل ساحة الجامعة الوليدة الوحيدة، فتنكلت أطياف الدعة المائية بشرارة المواقف، جرف الذاتية سيل نضالي عارم، وضاعت العوالم البسيطة المؤنسة كالعرائش.. آه.. ياأم عبدالعزيز ! قد يمسح تغيير الجو ماعلق من أشواك الخيبة. أخذ استراحة في مدينة الحمامات «دمت» لأستأنف السفر فيما بعد. في حمام عاطف ينتظرني أحد أحواض الماء الكبريتي الحار، يكاد لايحتمل. أقرفص على حافة الحوض، أصافح صفحته، أبقي يدي في لجة الماء يضحك ويترعرع بمداعبتي ومناكفتي إلى أن يتلقفني بحرارة صاهلة صاهدة، أشعر أنها تذيب كامل شحم بدني الزهيد. أقرفص في قاع الحوض ليغطس جسمي حتى أعلى الشعر، وأمكث حتى حدود الاختناق، ثم أعاود مستعذباً ذلك. أقبُّ للمرة الثالثة، أتنفس بعمق ماسحاً الماء عن وجهي، مقاوياً عينيَّ على استيضاح ماينتصب أمامي! قامة كأنها نشعت من صخر الأرض أو تدلت من سقف الصفيح. قامة ببنطلون مشبع الزرقة يمتلىء به الفخذان، واسع النهايتين فوق الحذاء، كفوهة جرس يقارب الانكفاء على الأرض، وقميص رمادي مطوق بخطوط شعرية بيضاء تشمل اليدين، ويتركز هذا التطويق في المنتصف بخطين بارزين أحمر وأصفر، مفتوح الأزرار حتى أسفل الصدر، تتعوج سلسلة ذهبية تنتهي بكعب نرد على صدره اليدان على الخصر، تحت اليسرى مسدس متدل خارج البنطلون كغواص منفلت للغوص انكباباً. بهدوء امبراطوري مكين يرفع وجهاً مائلاً قليلاً يكاد يسد أمامي كل منفذ. لا أجد إلا أن أفرك عيني، ألتفت باحثاً عن ثالث يخلخل استفراده بي، وقبل أن يسعفني دخوله تسقط القامة قدراً من الاستكشاف وإحكام التضييق الخانق، تقدم نفسها : عبدالله. للوهلة الأولى تكاد تنثقب جبهتي، يكاد رأسي لايتوقف عن التردد، كما لو اكتسب مرونة وترموسيقي.. استرجع نفسي فتنبسط أسارير وجهي دفاعاً ذاتياً لاشعورياً، أسارع بالتعريف بنفسي أملاً في سيادة هذه الودية وعقب سؤاله أرد بخطف «الجامعة تمام.. أنا بس بصدد زيارة الوالدة والوالد.. أربعة أيام.. أسبوع». نغادر الحمام على جناح صداقة خاطفة. أستأنف السفر أشبه بمعتقل. لن أستأذن أو أعتذر فأثير شكوكه. قبل أن تتكيف عيناي مع ظلال الداخل يثب نحوي أحدهم بألق عناق حار. لا أتبينه إلا بعد أن ينفك عني فتصرخ عيناي: ياه.. حتى أنت يامسعد ! يتوطأ قدمي بعض أنس. يصافحنا ثلاثة آخرون ويجلسون بجانبنا ببش وهش صادقين لايفسدهما إلا مرور النظرات على وجهي مبطنة الرغبة في المعرفة لأبعاد ارتيادي العرين. أشعر أن مسعداً يقتصد بألقه عندما يعرف أنني ضيف عابر. كيف يستطيع أحد أن يفهم أنني مدعو على الغداء والمقيل بالقوة، أو بالخوف من إثارة شكوكهم واستدعاء عيونهم ورائي فالناس يلصقون فلاناً أو علاناً بطرف بإشاعة سهلة كالماء. وهذا واقع وليس هجساً مريضاً. أسحب بنطلوني متوتر اليدين مجهور العينين بلا ضوء باهر فعلي، ورائحة النوم والزهم في مقطب «إزار» القيلولة الممسوك بأسناني للفه وتوضيعه تزيد من خلف أو عوجة كياني. مد نحوي عبدالله - في الخامسة - مزيداً من القات : «فينك ياعبدالعزيز» فشكرتهم معتذراً واجداً ثغرة فرصة لاستئذان. لفحني الهواء في الخارج معطراً بفرح الخلوص والتحرر من اندياح دوائر التواجد أو اعتيادي عليها. على جانب الطريق كنت ألوذ بنفسي من نفسي هوفت نحوي سيارة بسرعة الرخ، كأنها تتربص بي. تراجعت بإجفال، ثم استعدت نفسي ناظراً في جوف السيارة الذي يسخر مني أو يثقل الدعابة معي : «قعطبة » - اطلع -... - جيز الناس.. قالها بطفش مسحوب، ثم بصوت هادىء منطفىء : «خمسة ريالات» كان الاطمئنان أمامي عصياً على أن ألحق به، يترشق الحركة كطفور عصفور. لقد بددت هذه الصحبة الرغبة في التخويض مع الناس في اهتماماتهم ومشاكلهم الصغيرة والكبيرة، والترويح عن النفس بقامة الطالب الجامعي الفارعة الأفنان .. نفر في كل هدوء : «مالي وهؤلاء يعشقون المصاعب والمخاطر».. لم يبق بيني وبين البيت إلا معظم المدينة الصغيرة، ولكن من يخلي الطريق من الفجعات ؟ تفجؤني فجعة في شرك بشاشة زميلين قديمين من أيام الدراسة الابتدائية. ارتميت في العناق مخنوقاً، أخبىء فزعي من إمكانية معرفة مع من كنت بحر هذا اليوم لقد كثر الملازمون والنقباء بلا نجوم نحاسية لامعة أو بزات. أنا لست أمرض المرضى ! ففي هذه الأمور لاتظللك الزمالات، بل إن الحفاظ عليها يفتح نوافذ ويخلخل جدراناً مصمتة. - «أيوه».. قلتها باندفاع لم يترك فسحة عقب قولهما «معانا سهرة.. » حتى إنني أوشكت أن أقط شفتي لاضطرابي المترافق مع تطاوع هش قد يدفع باباً للمتاعب. لماذا أتماسخ بلا قوام أو إرادة بين أيدي الأطراف المنفلتة في المتجهات ؟ اللعنة على ابتسامة وجهي البلهاء ! إنني اكتشف أنني مستباح بارتشاق بلادة ابتسامي المعتوه، متطاوع مع عبثهم كالعجين. الحمدلله.. يبدو أن أحداً لم يضع عينا حمراء على الكثير يضعون حدوداً لامتداد تلك الأيدي بالمصافحة والإقبال، ربما بصرامة الوجه، أو ربما بعدم الخوف لديهم، وهو الذي لا أعرف من أين يشترونه، ومتى ما وقعوا أو استوقفوا لبعض الوقت.. من يدري، قد يكون ذلك أرحم من ضياعي في هذه المسافة. -«مالك.. في حاجة ؟» - لا لا.. مافيش حاجة». تبدد بعض الخوف - الذي حرصت على ألا يصعد إلى مساحة وجهي - مع تقدم الليل، وانتشاء فيوض المشاعر والعواطف في جو الجلسة الملتمة. وقبيل منتصف الليل كنت في البيت الذي استلم خبر وجودي مبكراً. لم تبق إلا عيون والدي، ربما لاتفهم هذا التماوج والاحمرار كنت أحس بخطوي رجل هنا ورجل هناك سبحان من جعل من انتفار المتجهات دولاباً يدور حولي ! كنت كمن هو بين فكي كماشة هذا اليوم الملتهب الممعن في مطاردتي. استلقيت على الفراش دون أن أسمع أخبار البنات في الجوار وترتيبهن حسب درجة الحشمة والأدب كما ترى أمي وتتشجع بصمتي وإصغائي، وهي مغلوبة على تصديق وصولي لبضع ساعات من أجل الشهادة الدراسية التي أحكمت ادعاء نسيانها، وأن الجامعة وصنعاء لاتحتملان نأي ليلتي المقبلة. نعم، علي أن أسافر عائداً صباحاً قبل الحركة والشمس. تمنيت أن يسرقني النوم. إذا ماانتهبني النوم مسح مخاوفي التي نبتت علي كياني كالزعانف.