انتهى عهد الإمام أحمد بموته ، وإن كان الموت لم يوقف تداعيات فترة حكمه البائسة والتي بدأت في الظهور بمجرد غيابه ، وبعد أسبوع سقطت الإمامة الزيدية السياسة في اليمن ،ومع سقوطها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ اليمن المعاصر. كان غياب الإمامة كطريقة في الحكم ، وشكل من أشكال السلطة حدثاً مهماً بكل ما تعنيه الكلمة من مدلول سياسي وديني ، فخلال إحدى عشر قرناً كان دور الأئمة حاضراً ، صاحب هذا الحضور نفوذ ديني يمتد ليشمل اليمن الطبيعي كله ، أو ينحصر ويتراجع شمالاً حتى جبال صعدة. ومع كل تراجع كانت هناك فرصة جديدة للتمدد جنوباً ، لأن في الزيدية كمذهب ديني روحاً ثورية متمردة ،ترفض الظلم والاستبداد ، وتدعو إلى الخروج على الحاكم الظالم مهما كانت ادعاءاته السياسية والدينية. 3 المؤسسات العسكرية: «أ» الجيش: يمكننا أن نلحظ مرحلتين في تطور المؤسسة العسكرية اليمنية حتى قيام الثورة الأولى، هي مرحلة التكوين التي تلت استقلال اليمن، قيام الدولة المتوكلية اليمنية، وهذه مرحلة تمتد حتى عام 8491م ويجعلها البعض حتى عام 5591م أما الثانية فهي المرحلة التي فرض فيها على الإمام أحمد القيام بعدد من الإصلاحات كان منها إصلاح حال ووضع الجيش اليمني، وفي المرحلتين تداخلت الأحداث إلى درجة أصبحت فيها الأولى توطئة للثانية وضرورية ولفهم ماجرى من أحداث عظيمة غيرت مسار التاريخ في اليمن، وكان الجيش في مركزها بل وصانعها. 1 تكوين الجيش النظامي: دخل الإمام يحيى صنعاء بعد نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 8191م معلناً استقلال اليمن، ومنصباً نفسه إماماً وملكاً وأميراً للمؤمنين في الجزء الأعلى من اليمن. وعلى الفور أدرك الإمام أهمية تكوين جيش وطني يحفظ الأمن والاستقرار، ويساعد على إخضاع القبائل المتمردة، ويواجه به التهديد الأجنبي المتمثل في الوجود البريطاني في الجنوب «عدن والمحميات» فأعلن عن فتح باب التجنيد في الجيش فتوافد الآلاف من الرجال إلى صنعاء، وتم إعداد بضعة آلاف ليكونوا نواة لجيش نظامي جاءوا من مصادر ثلاثة: المقاتلين الذين حاربوا الأتراك في صف الإمام أولاً، وثانياً ممن تم اختيارهم من جيش الجندرمة التركي، اليمني الأصل، والثالث من بين رجال القبائل الشافعية والزيدية. وفي العام التالي أعلن في احتفال مهيب عن قيام الجيش النظامي الذي تولى قيادته ضباط أتراك كانوا قد فضلوا البقاء في اليمن بعد انسحاب القوات التركية، كان أبرزهم كنعان بك «الذي عين مدرباً للجيش وعين علي بن إبراهيم من الأسرة المالكة نائباً وسارت عملية التكوين والتدريب على نحو إيجابي، لولا ظهور الخلافات بين مدرب الجيش التركي ونائبه اليمني، أقيل على إثرها كنعان بك، وتولى علي بن إبراهيم إمارة الجيش فيما أوكل إلى القائد التركي تأسيس كلية للتدريب العسكري، نجحت في تخريج أعداد من الضباط اليمنيين المؤهلين، لكن خلافاته مع علي بن ابراهيم استمرت فقادته إلى السجن حتى تدخلت الحكومة التركية لإنقاذه، واختير بدلاً عنه في تدريب الجيش حسن تحسين باشا، السوري الأصل والذي خدم في الجيش التركي، ولكنه سرعان مااختلف مع أمير الجيش فأقيل واستعير العقيد «تريا بك» لخلافته وباقتراح منه تم تعريب لغة التدريب في الجيش، وافتتاح معهد لتدريب الضباط، وتشكيل فوج نموذجي، وسرية استحكام وسرية مخابرات ولكنه استقال من خدمته بسبب خلافه مع أمير الجيش فعين مدرباً سورياً آخر هو أركان حرب «مصطفى وصفي باشا» حاول إصلاح الجيش، لكن اقتراحاته التي كان من بينها الغاء الجيش النظامي وإعادة تكوينه على أسس جديدة، لم تحظ بموافقة الإمام، فترك الخدمة هو الآخر، فاقترح ولي العهد استعادة حسن تحسين باشا، الذي تملق الإمام بعدد من المقالات في الصحف السورية فعين مدرباً للجيش الذي قدرت عداده في 8391م بنحو 52 ألفاً وقيل ثلاثين ألفاً أما التقديرات الغربية فلا تتجاوز به العشرة آلاف. 2 تكوين الجيش الدفاعي: مع رفضه لفكرة تسريح الجيش النظامي، وافق الإمام على إنشاء جيش جديد هو الجيش الدفاعي والميليشيا، وكلف القائد السوري تحسين باشا على إعداده وتدريبه. والفكرة من وراء تكوين هذا الجيش كانت جعل الخدمة العسكرية إجبارية على كل القادرين من المواطنين، أما مؤلف كتاب «اليمن المنهوبة المنكوبة» فيرى أن الإمام أراد بهذا الإجراء اشغال القبائل حتى لاتعود إلى التمرد، كما فعلت في بداية العهد، ونجحت التجربة، واستمرت عملية التدريب للآلاف من المواطنين كباراً وصغاراً وكلما انقضت دورة أعقبتها أخرى، وكان الفقراء وحدهم هم الذين يدفعون ثمن هذه التجربة، فإن أصحاب النفوذ والأغنياء قد تمكنوا من التهرب من أداء الواجب، واستشرى الفساد في هذا الجيش وأصبح محل نقمة المواطنين، وفي مرحلة ماحاول الإمام استخدامه في مواجهة الانجليز ولم يفلح. 3 تكوين الجيش البراني: إلى جانب هذه التشكيلات كانت هناك تشكيلة غريبة تسمى بالجيش «البراني» وهو جيش مؤلف من القبائل النائية الزيدية على نحو خاص، لكنه ليس بجيش نظامي، فقد كانت مجموعاته تتبع شيخاً من شيوخ القبائل، وهو مايدعى «بالعريفة» كان الهدف من تكوينه منافسة الجيش النظامي، وخلف حالة من التوازن في المؤسسة العسكرية ليأمن الإمام جانبها وقد وضع لهذا الجيش نظاماً خاصاً به لاينطبق على الجيشين النظامي والدفاعي، ففترة بقاء الجندي فيه من سنة إلى سنتين ، ثم استبداله بشخص آخر من أهله أو قرابته، وهو أكثر خشونة فأفراده دائماً في حالة تحفز للحرب، وجاهزون دائماً لتنفيذ أوامر الإمام أو أمراء الألوية ورواته أربعة ريالات يخصم منها ريالاً للشيخ «العريف» شهرياً. وبالإضافة إلى الجيوش الثلاثة كان الإمام يحتفظ لنفسه بحراسة خاصة تسمى «بالعكفة»،يبلغ عددهم نحو ثلاثة آلاف جندي،كان من مهامهم حراسة الإمام وتنفيذ المأموريات،والقيام بالاستعراضات الأسبوعية، كانت أفضل قطاعات الجيش،وأكثرها كفاية،وعادة فإنها ترابط في الثكنات خارج صنعاء. ومع هذا التعدد والتخصص،فقد كان الجيش يعاني من ضعف التسلح والتدريب، وفقدان الامكانيات العسكرية اللازمة، والنقص في الامدادات، فقد كان الجندي لايحصل إلا على الحد الأدنى من التغذية، القليل من العيش «الكدم» والقليل من الأدام، ولاتبدو على أشكالهم صرامة وانضباطية الجندية،كانوا ملتحين، حفاة الأقدام، يرتدون أثواباً بيضاء مفتوحة الأكمام وكانت عمائمهم مختلفة الألوان والأشكال، متمنطقين بخناجرهم بينما كانت تتقاطع أنطقة الذخيرة على صدورهم، عليهم واجبات لكن ليس لهم حقوق، فالإجراءات الانضباطية تجردهم من كل ميزة، حتى أثناء المرض، بل إن هذه الإجراءات تلزم أهله بدفع ثمن سلاحه وملابسه إذا فقدت عند موته، وهو يطرد من الخدمة إذا تقدم به السن دون حقوق،إلا أنه مع كل ذلك يتمتع بالقدرة على التحمل، ذكي، وشجاع، ومقدام، ولديه قابلية على التعليم واكتساب الخبرة. والجيش اليمني متعدد الأغراض، فإلى جانب أنه يفترض فيه القيام بواجباته العسكرية والعادية، كحراسة النظام، وإخماد الثورات، وحفظ الأمن، فإنه يقوم بأعمال أخرى كجمع الضرائب، وأعمال الشرطة،ونقل وتوصيل البريد الحكومي، تلك الوظائف التي يمكن اعتبارها من خصائص السلطة المحلية. 4 البعثات العسكرية: «أ» البعثات اليمنية: وكانت هزائم الإمام أمام الإنجليز في الجنوب، والملك عبدالعزيز بن سعود في الشمال، قد فرضت عليه إعادة النظر في وضع الجيش، وقد فكر الإمام في استخدام علاقاته مع بعض الأقطار العربية والأجنبية، وخصوصاً العراق التي ارتبط معها باتفاقية أخوة وصداقة عام 1391م،كان من نتيجتها أن بعث الإمام أول دفعة من الطلبة تم اختيارهم بعناية من قبل الإمام شخصياً، حرص على أن يكونوا من أبناء العامة، وليس لهم خلفيات قبلية مؤثرة، وغير مؤهلين للإمامة، وقد تكونت الدفعة من عبدالله بن يحيى السلال، ومحمد عبدالخالق حجر، وأحمد علي إسحاق، ومحمد صالح العلفي، ومحمد مصلح الريدي وأحمد على الآنسي،وأحمد حسني المروني،وعين على رأسهم الأستاذ محيي الدين العنسي،تلتها بعثتان الأولى مدنية والثانية عسكرية،وكان أبرز أعضاء المدنية أحمد حسن الحورش، وعلى محمد رجاء، وشيخان عبدالله الحبشي، وعلي بن علي الآنسي بالإضافة إلى ستة من أبناء السيد حسين بن صالح الحبشي،أما البعثة العسكرية فقد كان أبرز أعضائها أحمد الثلايا، وأحمد بن أحمد الحيمي،وحمود الجائفي،وسلام الرازحي،ومحمد عبدالولي نعمان، وقد أصبح معظمهم علامات مضيئة في تاريخ الحركة الوطنية فيما بعد. كانت أول دفعة قد عادت إلى الوطن في 7 سبتمبر 7391م،واستقبلت استقبالاً حاراً من قبل الإمام والمواطنين، لكن هذا الاستقبال الحافل سرعان ماتحول إلى شك لدى الإمام،فهؤلاء العائدون قد احتكوا بالأفكار المعاصرة والتقدمية حينها، ولاشك أن هذا الاحتكاك قد أثر فيهم، لقد أصبحوا قادة في جيش الإمام لكن سلوكهم المغاير، وأفكارهم المستنيرة، وطموحاتهم التغييرية، بالإضافة إلى عناء الضباط القدامى لهم، كانت كافية ليقوم الإمام بعد ذلك بإبعادهم عن الجيش، أو على الأقل عن المواقع الحساسة، ولم يعد متحمساً لإرسال بعثات أخرى، وربما فكر في أن استقدام مدربين إلى اليمن، أفضل من إرسال متدربين إلى الخارج. وكانت إيطاليا قد شجعت الإمام على إرسال بعثة طيران يمنية للحصول على المعارف والخبرات اللازمة في هذا المجال الحيوي، وقبل الإمام وأرسل عشرة أشخاص حصلوا على دورة لمدة ثلاث سنوات، ومع أول استعراض للطيران سقطت إحدى الطائرات، وكانت إيطالية، وصُرع قائداها: أحمد الكبسي وأحمد السراجي، وكانت النتيجة إلغاء مشروع الطيران نهائياً وتوزيع أعضاء البعثة على مرافق البريد وبعض المصالح الحكومية الأخرى. ب البعثة العسكرية العراقية: في عام 0491أرسلت العراق بعثة عسكرية إلى اليمن لتدريب الجيش، كان ذلك قد تم باقتراح من العراق، وقيل بناء على طلب من الإمام ، استجابة لضغوطات محلية وعربية، وصلت البعثة إلى اليمن مزودة بالبرامج والأجهزة والبدلات العسكرية، وقد ترأس البعثة العقيد اسماعيل صفوت، وأربعة ضباط آخرين، هم الضباط جمال جميل، أحد أبرز رجال الانقلاب الدستوري في 8491م، ومحمد حسن صاحب كتاب «قلب اليمن»وعبدالقادر الفاطمي والملازم أول سيف الدين. درس رئيس البعثة حالة الجيش في اليمن، وقدم تقريره إلى الإمام والذي ضمنه عدداً من المقترحات منها: إعادة تأهيل الجيوش الثلاثة، وتمديد فترة الخدمة الإجبارية إلى سنة، وتنظيم الألوية، وإعادة تشكيلها، ونبه إلى الوضع العام في الجيش ، وشكك في قدراته على مواجهة الأخطار المحتملة ،ووصفه بأنه أقرب إلى «الجندرمة» التركي، تلك الوحدات التي لم يستفد منها الجيش العثماني نفسه في حروبه النظامية،ومن الواضح أن الإمام اطلع على التقرير وكذلك وزير دفاعه سيف الإسلام عبدالله. وبقيت البعثة ثلاث سنوات في اليمن، وفي هذه الفترة أنشئت المدرسة الحربية، ومدرسة الرشاش، وفوجان نموذجان، وفوج آخر عرف ب«فوج النامونة» «النموذج» ، وهذا الفوج كان قد جهز بأسلحته وملابسه، وكل مستلزماته من العراق. 5 مصادر التسليح: لقد تسلح الجيش اليمني في تلك الفترة ببنادق قديمة، كان لديه منها نحو 000.004بندقية ومائتي مدفع، غنم الإمام بعضها، واشترى البعض الآخر، ومصادر هذه الأسلحة عديدة ومن بينها كميات غير قليلة تركها الأتراك للإمام، الذي استخدمها في حروبه التوحيدية وقمع القبائل المتمردة، وبعد عشرين عاماً اشترى الإمام من “إسرائيل الصبيري” وهو من يهود اليمن، ووكيل لإحدى الشركات النمساوية كميات أخرى من البنادق والرشاشات والمدافع قدر ثمنها بمئات الآلاف من الجنيهات، ثم اشترى بعض أسلحة ألمانية خفيفة، عبر وسيط سوري، وعندما عقد الإمام اتفاقيته المشهورة مع الإيطاليين في 6291م، وبعد تجديدها بعشر سنوات، أهداه الإيطاليون كميات كبيرة من البنادق، بلغت عشرين ألف بندقية كما حصل الإمام على بعض مدافع من العراق بريطانية الصنع، وأسلحة فرنسية أهدتها إليه بعثة عسكرية فرنسية عام 7491م. وكان للإمام دار صغيرة للسلاح يشرف عليها نمساويون، كانت تقوم بسبك الطلقات النارية، وحشو الخراطيش، ثم أنشأ الإيطاليون مصنعاً صغيراً كان بإمكانه إنتاج خراطيش، وإصلاح قطع الأسلحة الصغيرة، وهذه الأسلحة لاتنظم في وحدات نوعية، فإذا كان الجيش قد قسم إلى ألوية، فإنه كان يفتقر إلى سلاح للطيران، وآخر للبحرية، ولم يكن لدى الإمام سوى صندلين صغيرين على كل منهما مدفعان. لقد كانت أوضاع الجيش في غاية السوء، ووفقاً لرأي البعض فقد كان للإمام هدفان بالنسبة للجيش في وقت واحد، فهو يريد جيشاً قوياً يمنحه القدرة على تحقيق حلمه في اليمن الكبير، وهذه الرغبة كانت تدفعه إلى إرسال بعثات إلى الخارج، وشراء أسلحة من جهة ، ومن جهة أخرى كان قلقه يتزايد من احتمال أن يقوم مثل هذا الجيس بالالتفاف عليه، خصوصاً وقد لاحظ أن العائدين من الخارج كانوا يعودون بأفكار تقدمية لاتروق له. وباختصار فإنه من الممكن تلخيص حالة الجيش في اليمن في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وبكلمات قليلة بالقول: مرتبات متدنية جداً، أسلحة متواضعة وقديمة، وتجهيزات قليلة أو نادرة، ملابس رديئة غير موحدة، وتدريب سيئ، وقيادة ضعيفة، وقليلة خبرة. مرحلة التطوير: كسب الإمام أحمد الجولة الأولى في صراعه الدموي مع المعارضة، فأخمد انقلاب 8491م بدعم القبائل الزيدية في الشمال، وإعدام قادة الانقلاب المباشرين، وزج ببعضهم الآخر في السجون الإمامية الرهيبة، ولم يعف إلا عن القليل ممن لم يكن على ثقة بتورطهم في الانقلاب، كان من بين هؤلاء الذين نجوا من القتل أو السجن أو الإبعاد المقدم أحمد الثلايا، خريج العراق الدفعة الثانية، فقد تعشم فيه الإمام خيراً، واطمأن إليه وإلى ولائه، فعينه معلماً «مدرباً» للجيش، وطلب منه إعادة تنظيم الجيش، وتقديم ما يراه من مقترحات لتطويره. وأسرع الثلايا في 52شعبان 9631ه «يونيو 0591م» وقدم للإمام اقتراحات تتعلق بتطوير الجيش، مؤكداً على أهمية التدريب المستمر بإشراف ضباط مؤهلين تأهيلاً عالياً، وفتح المدارس العسكرية المتخصصة لإعطاء الجنود فكرة عامة عن المهنة العسكرية والمسئولية الملقاة على عاتقهم، وتنمية الصفات «المهارات» العسكرية في القيادة والضبط، واللياقة البدنية، وكذلك تنمية القدرات والمهارات لدى الضباط، فكفاءة الجيش تتوقف إلى حد بعيد على كفاءة ضباطه، ومستوى تدريبه وتسليحه، لأن الغاية هي إعداد الجيش للحرب، والفوز في المعارك عند لقاء الأعداء، واقترح على الإمام إبعاد الجيش عن القيام بأية خدمات هي في الواقع من اختصاصات الإدارات المحلية. ورد الإمام على مقترحات “قائد الجيش” بطلب مقترحات أكثر تفصيلاً ، وكانت مثل هذه المقترحات جاهزة في الواقع، وبعضها كان قد اقترحها مدربون عراقيون وسوريون سابقون للجيش، إلا أن الإمام يحيى لم يأخذ إلا بالقليل منها. ولخص الثلايا مقترحاته في نقاط ثلاث هي: 1 إما تنظيم الجيش المظفر الأصلي 2 وإما تنظيم فوج النموذج الأول والثاني، والجيش الدفاعي 3 وأن يتم فتح مدرسة عسكرية للتدريب على العلوم العسكرية وأن تفتح دورات داخل الأفواج للتدريب. 4 وأن يعين إمام «مرشد ديني» لكل فوج فرد الإمام بطلب المزيد من الاقتراحات. والمذكرتان وتعقيبات الإمام «إشاراته» تبرز عدداً من القضايا منها: أن الأمور الجوهرية فيما يتعلق بحاضر ومستقبل الجيش، لم تتغير في عهدين مختلفين ، فما كان يقال للإمام يحيى «تعدد التشكيلات، وسوء التنظيم، والحاجة إلى إعادة التدريب.. الخ» أضحى يقال من بعد للإمام أحمد، وفي نفس الوقت فإن طريقة الإمام في إدارة أمور البلاد لم تختلف كثيراً عن طريقة والده، ويتفق الاثنان في أن اهتمامهما بالجيش كان محدوداً ، وهذا يفسر كثرة التمردات داخل الجيش، كما أن قضية الجيش ذاتها كانت محل صراع بين الأئمة والمعارضة، فقد أخذت المعارضة على الإمامين رغبتهما في إبقاء حالة الجيش في أدنى مستوياتها، وأنهما دائماً كانا يتآمران على هذه المؤسسة التي يفترض فيها الذود عن حياض الوطن، كما أننا قد لاحظنا أن الإمام قد تعمد عدم الحسم في كل المقترحات المقدمة إليه، وبدلاً من التوجيه بما يلزم من إجراءات، فقد أخذ يطرح قائمة من الأسئلة تلو الأسئلة على قيادة الجيش، وبقيت أوضاع الجيش كما هي عليه سنتين أخريين. ففي وثيقة أخرى كتبت في 12يوليو 1591م، هناك إشارات واضحة إلى أن الأمور في الجيش اليمني قد ظلت على حالها، تقول الوثيقة إن حكومة الإمام أحمد- بعد أن استقرت لها الأمور- وبعد أن فر معظم جنود الجيوش الثلاثة «النظامي والبراني والدفاعي» إلى قبائلهم، أخذت تنشئ جيشاً جديداً، قوامه نحو خمسة وعشرين ألف جندي، منهم خمسة آلاف جندي نظامي، وعشرة آلاف متطوع «البراني»، وحددت الوثيقة مستوى أفرع الجيش وحجم التسليح مشيرة إلى أن جيش الإمام أحمد لم يكن يملك سوى القليل من املدافع، «4مدافع 82ملليمتر، 2-مدفع 21-8ملليمتر، 07مدفعاً 4-8ملليمتر» ومعظم هذه المدافع وعلى الأخص الكبيرة منها، مما تركه الجيش التركي، وهي مهملة وبدون صيانة، مما يصعب معرفة درجة احتمالها، أو صلاحيتها للعمل، لعدم تجربتها في مناورات عسكرية منذ فترة طويلة. وفيما يخص سلاح الفرسان فإن أفراده لم يكن يزيدون على مائة فارس، ويستخدمهم الإمام حرساً خاصاً له، وبجانب هؤلاء قوة صغيرة من الهجانة، وأسلحة هؤلاء جميعاً هي البندقية، وقد يبدو الحال أفضل قليلاً في سلاح المدفعية، فلدى الجيش اليمني عشر مدرعات ومصفحات منها خمس دبابات زنة 52طناً، وواحدة زنة 05طناً، كانت بريطانيا قد أهدتها لليمن، أما الأسلحة الأخرى، كالسلاح الجوي والبحري، والجيش معظمه يتمركز في صنعاء، وتنتقل فرقه من هناك إلى أنحاء اليمن بأوامر من الإمام، وهو يقيم «الجيش» في ذات الثكنات التي أقامها العثمانيون قبل خمسين عاماً، ويتقاضى جندي المشاة 6ريالات شهرياً «26.1جنيه مصري» أما جندي المدفعية فيتقاضى 8ريالات «04.2 جنية مصري» ولا تلتزم الحكومة إلا بصرف ثلاثة أرغفة من الخبز يومياً لكل جندي، وعليه أن يتكفل بباقي طعامه، وهذه الحال استمرت حتى عام 5591م تقريباً كما تشير إلى ذلك بعض المصادر الأخرى.