د.علي محمد سعيد الشيباني سأل الأب ابنه البالغ خمسة وعشرين عاماً والذي كان قبل أيام قلائل قد أكمل دراسته الجامعية بكالوريوس تجارة، لماذا تخرج من البيت بعد الثانية عشرة بعد منتصف الليل ألا تخجل من نفسك؟ الابن: ليس هناك مايوجب الخجل من نفسي ياأبي فمعظم الشباب تجدهم أيام عطلة الصيف خارج منازلهم أنصاف الليالي فما بعدها. الأب: لأنهم شباب منفلت لم يجدوا من يعيدهم إلى رشدهم وإلى صوابهم. الابن: ليسوا بالضرورة منفلتين ياأبي..ولو قلت: إنهم حائرون أو قلقون او مضطربون نفسياً لكنت أقرب إلى الصواب في وصفهم. الأب: وهل كنت أنت حائراً أم مضطرباً نفسياً عندما تركت البيت خلسة دون أن تعلم أحداً؟ الابن: لا هذا ولا ذاك ياأبي. الأب: فماهي حجتك إذن؟ الابن: حجتي أنك أغلقت جهاز التلفاز ولم تتركني أتابع الحلقة الأخيرة من المسلسل. الأب: وهل تعتقد أنه كان يجوز لك أن تفعل ذلك شرعاً أو قانوناً أو ذوقاً؟ لمجرد أن يغلق أمامك التلفاز؟! الابن: كلا ياأبي، أعلم أن ذلك كان خطئاً فادحاً ولكن الذي أغراني على فعل ذلك كثرة الشباب خارج منازلهم في أوقات متأخرة من الليل، وكما قلت لك: كنت متلهفاً لمعرفة نهاية المسلسل فقد كنا في الحلقة الأخيرة. الأب: ألم تتابع المسلسل من بدايته؟ الابن: بلى ياأبي. الأب: لم لاتضع أنت النهاية؟ الابن: كيف أضع النهاية لقصة لم أكتبها، فمهما اجتهدت فلن تكون مطابقة للنهاية في المسلسل. الأب: ولماذا تكون مطابقة لتلك النهاية في المسلسل، فباستطاعتك أن تضع نهاية، ربما تأتي أفضل من تلك التي تخيلها كاتب قصة المسلسل، فلماذا تقيد نفسك بفكر وأسلوب وثقافة الكاتب ولماذا لايكون لك فكرك وأسلوبك ورؤاك مستقلاً عن الكاتب؟ الابن:ليس عندي الثقة بنفسي إلى هذا الحد، كما أن الفكرة من أصلها لم تخطر لي على بال..بل ظننت أنك أردت معاقبتي بقصد حرماني من الاستمتاع بمعرفة نهاية المسلسل فطاش عقلي وامئتلأت نفسي بالحنق وظننت إنني إذا لم أر نهاية القصة فقد فاتني لب الموضوع وجوهر القصة، وكأنني لم أستفد شيئاً من كل الحلقات السابقة خصوصاً وأنت تعلم أن متابعتي لبعض المسلسلات الهادفة والراقية، ليس من أجل الحصول على المتعة وإنما أتابعها بقصد الحصول على الفائدة.. وأنت تعلم ياأبي قبل غيرك إنني أحتقر الأعمال الهابطة التي تروجها فضائيات هابطة أو أكثر منها هبوطاً باسم الفن والثقافة والمعرفة وماهي من ذلك كله في شيء..فلماذا لاترفع عني ياأبي حضر المراقبة والمتابعة وتصر على تقييد حرية حركتي بحيث تشعرني أنني مازلت غراً في سن المراهقة يحتاج من يرعاه ويهتم بشئونه؟! مع أنني كما تعلم قد عنست «يقول ذلك على سبيل المداعبة». الأب: أنت في نظري مازلت كذلك «أي في سن من يحتاج الرعاية». الابن: حتى متى؟ الأب: حتى تستقل بحياتك وتكون لك أسرة ترعاها وتخاف عليها وتشعر بالمسئولية تجاهها..أما وأنت هكذا بدون أسرة ترعاها فإن حريتك ليس لها مرادف عندي سوى الانفلات!! الابن: الزواج ياأبي صار اليوم غاية في الصعوبة فأنى لي تكوين أسرة، فاختيار العروس المناسب مشكلة والمهر مشكلة وتبعات العُرس مشكلة والحصول على سكن مشكلة، ودفع إيجار السكن مشكلة والحصول على وظيفة أستطيع من خلالها مواجهة كل مايعترض حياتي من مشاكل أيضاً مشكلة، فهل ترى ياأبي أن المسألة هينة أو متاحة حتى تلومني أنني لم أستطع حتى اليوم تكوين أسرة والاستقلال بحياتي عنكم؟! فبماذا تنصحني ياأبي؟ الأب: كن قريباً من الله..توسل إليه..اطلب منه العون والتوفيق والسداد وكن بعيداً عن الأمل فيما هو ليس لك وإذا سألت فاسأل الله وليس غيره. الابن: سأفعل إن شاء الله..وماذا أيضاً ياأبي؟ الأب: اقرأ كثيراً..أعد نفسك للغد..أهّل نفسك بكل ماتستطيع وبكل ماهو متاح من وسائل التأهيل والاعداد للذات، كما لو كنت موعوداً بوظيفة أو مهنة معقولة ومقبولة، بل ومشرفة أيضاً فور انتهائك من إعداد نفسك وتأهيلها..ولاتركن بأي حال إلى مابيدك من شهادات جامعية فقد لاتفيدك في شيء إلاَّ أن يكون معها مايؤازرها ويدعمها. الابن: وماذا أيضاً ياأبي؟ الأب: إياك أن تتمادى في الخطأ في الخروج من البيت بعد الساعة التاسعة مساءً، فالذين يفعلون ذلك ليسوا «أولاد ناس» في رأيي بل هم شباب منفلت!! الابن: لا أريد أن أعصي لك أمراً ياأبي لكنني لا أستطيع الموافقة على أن الذين يتواجدون في الشارع بعد التاسعة مساءً هم جميعاً منفلتون. الأب: بل هم منفلتون ولايستثنى منهم إلاَّ أولئك المرتبطون بأعمال ومصالح أو بيع وشراء..أما ماعداهم من أولئك الذين يفترشون الأرصفة والطرقات والأركان في الحواري والأحياء والأزقة فليسوا غير شراذم ضالة لم يجدوا من يحسن تربيتهم أو ردعهم ومنعهم من التسكع والانفلات لا من أهاليهم ولا من الجهات الأمنية. الابن: هل تسمح ياأبي؟ أريد توضيح بعض الأمور. الأب: ماذا تريد أن توضح؟ الابن: اعلم ياأبي أن واقعنا سيء ومصاب بمختلف الأمراض والأسقام والأوبئة، فالأسواق موبوءة في الليل والنهار والتجمعات موبوءة في وضح النهار كماهي موبوءة في الليالي المظلمة والمقمرة وأعلم أنك تريد مني ومن بقية إخوتي أن ننفصل عن واقعنا المريض إلى واقع آخر خالٍ من العلل والأسقام والأوزار والتشوهات فيكاد ماتطلبه ان يكون مستحيلاً..كيف يتسنى لنا ذلك؟ فالإنسان ياأبي بطبيعته كائن اجتماعي لايستطيع العيش بمفرده فلابد له من جماعة يعيش بينهم..ربما نستطيع تجنب الفاسدين الذين بان فسادهم والمنحرفين الذين ظهر انحرافهم فأنا لا أختلف عنك قناعة في أن أمثال هؤلاء يشبهون الثمار المعطوبة التي تصيب كل الثمار السليمة بالعطب إذا لامستهاً ويشبهون المصابين بالأمراض المعدية لايقترب منهم سليم إلا صار مريضاً. الأب: يكفي يابني ها أنت ذا قد عرفت مبعث خوفنا وقلقنا فعليك أن تقدر ذلك وتكف عن إثارة مخاوفنا وقلقنا عليك فما فائدة الجدال في أمور محسومة. الابن: ليس جدالاً ياأبي وإنما هو حوار لو سمحت لي وأرى أننا لسنا مختلفين على الإطلاق ولكن هناك ثمة أموراً مازالت تحتاج إلى توضيح. الأب: مثل ماذا؟ الابن: هناك الكثيرون من الشباب ليسوا فاسدين وليسوا سيئين بل هم أسوياء يعيشون في منطقة «الأعراف» إن صح التعبير لا هم من أصحاب الجنة ولا من أهل النار.. هم بين ذلك في إنتظار المرجح الذي يحسم أمرهم إلى حيث يواجهون مصيرهم. الأب: عن ماذا تتحدث؟ الابن: أتحدث عن شباب لم يجدوا أمامهم غير الأرصفة يفترشون الأرض ويلتحفون السماء لأن بيوتهم ضيقة لاتتسع للذكور والإناث من الاخوة والأخوات وربما بعض الأقارب..الجميع يحشرون في مرقد واحد في سكن ليس فيه سوى غرفة واحدة وربما غرفتين ليس في السكن سوى مرحاض واحد، بل إن بعضهم يشاركون الجيران في مرحاض واحد.. فهل رأيت بؤساً ياأبي أكثر من هذا ؟ عندما يشتد القيظ ياأبي ليس في النهار وإنما أثناء الليل في بيوت تفتقر إلى أبسط القواعد الصحية للسكن الصحي، فتكاد كل الشروط تكون معدومة فإنه يتعذر على الصغار والكبار أن يغمض لهم جفن، فأما الشباب فيجدون ملاذهم في الشارع.. أما الأطفال والنساء فعليك أن تتخيل ياأبي معاناتهم ومقدار بؤسهم وشقائهم وفداحة معيشتهم..فإذا وجدتني خارج البيت فأنا أعرف أين أذهب وبمن أختلط فإن أكثر أصحابي من هؤلاء الذين يقيمون في الشارع إقامة جبرية لايجدون أمامهم غير البؤس يتجرعونه بكرة وعشية، أكبرهم سناً قد بلغ الأربعين من عمره ولم يستطع الزواج وبعضهم في مثل عمري أو أكثر بعام أو خمسة أو عشرة وكلنا عزاب نحمل في حوزتنا كل الشهادات..من الثانوية العامة إلى البكالوريوس إلى الدبلوم أو الماجستير.. معظمنا قد نسي كل ماله صلة أو علاقة بالعلم والمعرفة. الأب: هل انتهيت؟ الابن: تقريباً ياأبي. الأب: متى كان آخر عهد لك بقراءة القرآن. الابن: ليس كثيراً: ياأبي. الأب: متى كان آخر عهد لأصدقائك بقراءة القرآن؟ الابن: لا أعلم ياأبي. الأب: هناك آية في القرآن تقول:« إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم»..هل مررتم عليها؟ الابن: بالطبع ياأبي..كثيراً. الأب: مررتم بالآية ورددتموها كثيراً كما تفعل الببغاوات..فماذا استفدتم من هذه الآية؟ الابن: ليس كثيراً ياأبي. الأب: بل لم تستفيدوا منها أنت واصحابك بشيء..ولو كنتم قد فعلتم «أي استفدتم من مدلولات هذه الآية الكريمة» لما كان هذا حالكم..أسألك مرة ثانية: تقول: إنكم جميعاً أو معظمكم تملكون الشهادات من الثانوية حتى درجة الماجستير ومع ذلك فأنتم عاطلون عن العمل..!! أليس كذلك؟ وقد نسيتم كل تلك العلوم والمعارف على هزالها وضعفها وقلة نفعها..أليس كذلك؟ لم يتحرك أي منكم في الاتجاه الذي يجعله يطور نفسه علمياً وتقنياً وماشابه ذلك من حرص الإنسان على تطوير إمكانياته وإعداد نفسه إعداداً وتأهيلاً يجعله مستحقاً لأي وظيفة أو مهنة؟ أنتم لم تقرأوا كتاباً ولاتستطيعون تأليف كتاب ولاتقدرون حتى على صياغة جملة مفيدة واحدة وتدّعون أن عندكم شهادات!! فما قيمة شهاداتكم في سوق العمل؟ بل ماقيمة شهاداتكم في تأكيد خبراتكم ومعارفكم.. أنتم لاتحسنون شيئاً قدر ماتحسنون التباكي ولطم الخدود وشق الجيوب مثل العجائز أو الباكيات والنائحات اللائي يتظاهرن بأن مصابهن عظيم ومافقدنه فادح. الابن: إن دموعهم ياأبي لاتكاد تراها العيون فكيف تشبههم بالنائحات والباكيات؟! الأب: بل هم نائحون، ساخطون ومتبرمون وبارعون في إلقاء اللوم على الآخرين في أن الذنب ليس ذنبهم، فالواقع هو المسئول والظروف الاقتصادية مسئولة عن بؤسهم وشقائهم والحكومة أيضاً مسئولة.. وأنا لا أبرئ يابني أحداً من المسئولية ولكنني أرى أن العبء الأكبر من المسئولية يقع على عاتق الشباب أنفسهم فماذا صنعوا لتغيير واقعهم غير التضجر والتبرم والسخط حتى على آبائهم وذويهم وقد كان أحرى بهم أن يحسنوا التعامل مع ظروفهم المعيشية ويفروا إلى الله بدلاً من الفرار منه فهل تستطيع يابني أن توصل كل ماحدثتك به لأصدقائك لعلهم يستيقظون من سباتهم أو غفلتهم..هل تستطيع أن تفعل ذلك؟ الإبن: لا أستطيع ياأبي تحّمل أن يصفك أحدهم بالشدة وقسوة القلب. الأب: بل الشدة وقسوة القلب في أن لايجدوا من لايسمعهم أكثر من هذا الحديث شدة وصرامة..امض يابني إلى أصحابك واتلُ عليهم قوله تعالى «هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور». وقل لهم «لاتكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم».. نهاية القصة: خرج الابن ولم يعد.. وبعد ثلاث سنوات من اختفائه كتب رسالة لوالده يقول فيها: سامحني ياأبي فقد أدركت الآن أنك كنت محقاً في كل ماسمعته منك..لست وحدي الذي أقول ذلك، بل كل الأصحاب الذين تأثروا بصدق حديثك..فقد بدأنا عهداً جديداً مختلفاً ومتميزاً وسوف نعود في الوقت المناسب. فقد مشينا في مناكب الأرض «في بلادنا» ووجدنا ماوعدنا الله تعالى به من خير ورزق وعافية.