إن محاولات الكبار دفع الصغار لفعل الأشياء “بشكل صحيح” وتربيتهم على أنه توجد طريقة واحدة فقط لفعل الأشياء بذلك الشكل “الصحيح” يقتل في هؤلاء الصغار روح البحث عن طرق أخرى لفعل الأشياء ومن ثم تموت فيهم روح المغامرة والإبداع. كما أن أحد معاول هدم روح الإبداع لدى الصغار يتمثل في إجبار الأطفال على أن يكونوا واقعيين في كل تصرفاتهم بعيدين عن أي خيال. فعندما نصف الأفكار الخيالية لأحد الأطفال على أنها “ساذجة” فإننا نكون قد حكمنا عليه بالسجن داخل الأفكار “الواقعية” الجاهزة وعدم محاولة الإبداع. عنصر آخر من عناصر الهدم هو مقارنة الأطفال مع بعضهم ومحاولة جعلهم نسخة مكررة لبعضهم البعض. فإقناع الطفل بأن يظل مثل الآخرين يعني عدم تمكينه من الإبداع وحرية أن يكون مختلفا عن الآخرين ، وكذا قمع حب الاستطلاع لدى الأطفال بحجة التأدب يعتبر عنصرا آخر من عناصر “قتل” الموهبة والإبداع. فحب الاستطلاع يمثل نقطة البداية للمعرفة وأحد مؤشرات الإبداع. فبعض الأحيان نرفض الإجابة على بعض الأسئلة التي يطرحها أطفالنا بحجة أنها أسئلة “سخيفة” أو “محرجة لنا” أو أننا “مشغولون” ولا وقت لدينا للإجابة على مثل تلك الأسئلة. فالأسئلة التي يطرحها الصغار يجب ألا نهملها وأن تجد لها أذاناً صاغية. وفيما يلي جولة مع عدد من المرشدين والإخصائيين النفسانيين والإجتماعيين الذين ناقشوا هذا الموضوع وأثروا جوانبه المختلفة .... توفير جو أسري منفتح الأستاذة تفيدة عبد القوي حسين مربية في روضة الشموع بعدن أوجبت على المجتمعات خلق نوع من المرونة و الانفتاح للأفكار الجديدة والمرح العفوي داخل الأسر وترغيب أفراد تلك الأسر في الإبداع ، وعلى تلك الأسر الحد من استخدام أبنائها لأجهزة التلفاز والحاسب الآلي وتشجيعهم على تطوير قدراتهم التخيلية عن طريق قراءة الكتب والتعامل مع الفنون والموسيقى. وأضافت الأستاذة تفيدة أنه يجب عدم تشجيع الركون إلى الأحكام الجاهزة وضرورة البحث عن اكتشافات وأفكار جديدة. وعن تجاربها الخاصة االمتعلقة بعملها قالت : لقد سبق لنا جميعا أن زرنا أسرا يسودها جو من الانفتاح والحرية...حيث يقوم الأبناء كبارا وصغارا بالتعبير عن أفكارهم بحرية حتى في حال اختلاف تلك الأفكار.... وفي مثل هذه البيوت يسود جو من الإثارة والرغبة في المعرفة ، فالآباء يشاركون أبناءهم في أفكارهم وهواياتهم ويستمعون لأطفالهم عند طرحهم لأفكارهم وأحلامهم ورغباتهم، فداخل مثل هذه البيوت توجد سلال نفايات مليئة بالمواد التي يستخدمها أفراد هذه الأسر في هواياتهم مثل الأسلاك والمعادن لهواة الإنشاءات، المواد الفنية ، المطبوعات والكاميرات والملابس وغيرها . الجدران مغطاة باللوحات والمشغولات الفنية. زوايا المنزل مزينة بالمصنوعات الكرتونية وغيرها مما يبدعه الأبناء والبنات. الأسرة وغرس الثقة وتواصل الأستاذة تفيدة حديثها قائلةً : إن الأطفال الموهوبين الذي يعيشون داخل أسر يشترك كل أو جل أفرادها في مشروعات إبداعية يكونون أكثر ثقة في ممارسة مواهبهم والانطلاق بها إلى آفاق أرحب ، ولقد التقيت بأحد الآباء في إحد الورش الخاصة بنا وقد شجع ابنته على تنمية هوايتها في مجال البستنة. فقد علمها كل شيء عن النباتات وكيف تبذر بذورها في التربة، وما مقدار الماء اللازم لكل نوع من تلك النباتات وكم من أشعة الشمس يلزم لنموها – ثم منحها جزء من ساحة المنزل لإقامة حديقتها الخاصة . وأضافت : إن أطفالك يتعلمون الكثير من مشاهدتهم لما تقوم به من أعمال ، الكيفية التي تؤدي بها تلك الأعمال وطريقة استمتاعك بها، وحماسك في القيام بها. إنها الطريقة التي تعيش بها الأسرة ويتفاعل أفرادها مع بعضهم ويتعلمون من بعضهم الدروس والعبر. فعليك التفكير في هذا الأمر لأسرتك، وما هي المشروعات التي يمكن لأفراد أسرتك القيام بها معا؟ إن النشاطات الأسرية تعتبر مفيدة للأطفال الموهوبين ، حيث أنها لا تقدم لهم فقط النصح والإرشاد، بل توجد مجتمعات تشجع الإبداع والاكتشاف والاختراع (أيا كان نوعها). مكان خاص لفوضى الإبداع المشرفة الإجتماعية والإخصائية النفسية في ذات الروضة بعدن أمنية ياسين المنصوري قالت : إن العمل الإبداعي يولد الكثير من الفوضى والعبث بالمكان الذي يمارس فيه مما يسبب الكثير من الضيق للأسر عندما يتم ذلك داخل المنزل، فأحد الآباء ذكر لي بأنه هو وزوجته لا يريدون كبت الروح الإبداعية لدى إبنهم بتذكيره دوما بحالة العبث والفوضى التي يخلفها حيثما يمارس نشاطه الإبداعي، فهو يخلط أشياء لا يمكن جمعها معا، ويسبب العديد من الخراب أثناء لعبه ونشاطه العبثي ، وبعد صراع طويل ونقاشات حادة تم التوصل إلى حل، حيث منحه الوالدان غرفة خاصة لممارسة نشاطاته الغريبة وتركها كيفما اتفق لمواصلة عمله عليها في اليوم التالي، وهكذا تمكنت هذه الأسرة من حصر النشاطات الفوضوية الإبداعية لإبنهم بمكان خاص وفي نفس الوقت تمكينه من تركها على مرحلة الإبداع التي وصلت إليها لاستكمالها في اليوم التالي. تفتق الإبداع وتضيف الأستاذة أمنية :إن الأطفال الذين يتعلمون مبكرا أن يثقوا في تصرفاتهم و أفكارهم الإبداعية يصبحون أكثر مرونة في التعاطي مع مشاق الحياة ومشكلاتها. فقد وصفت إحدى الأمهات ممن أعرفهن كيف أن ابنها الذي كان يدرس بالمستوى الثاني قد أبدى تضجره من سخرية بعض زملائه من أحد الأطفال كان يعاني من تلعثم عند الكلام ، وقد بحثت تلك الأم وابنها السبيل الأمثل لمعالجة هذا الأمر وخرجوا بعدة حلول منها إبلاغ المدرسة بالأمر ، تأنيب أولئك الصبية وحثهم على عدم السخرية من ذلك الطفل ، ومصادقة الطفل موضع السخرية ، وهكذا. وتواصل .... وقد بدت لهم كل تلك الخيارات غير كافية حيث تساءلت الأم: “إذا طلب منك اختيار الحل ، فماذا أنت فاعل؟” فأطرق الولد هنيهة وقال “سوف أضع قانونا في المدرسة بألا يحتقر أي طالب حتى لو كان كذلك” ثم برقت عيناه وأضاف “إنني أعرف ما علي فعله”....وعند نهاية اليوم الدراسي التالي أخبر الابن المعلمة بالأمر وطلب منها عدم التحدث مع الصبية المعنيين واقترح عليها بدلا عن ذلك أن تضع إدارة المدرسة نظاما يمنع تحقير الطلاب أو التندر عليهم. وقد كان هذا الموقف مدعاة لأن تفكر المدرسة في بحث عدة أمور تتعلق بمسائل العدالة والمساواة والسلوك القويم داخل المدرسة. وقد أشركوا في ذلك طلاب المدرسة الذين أدلى كل منهم بدلوه واقترحوا جملة من النظم واللوائح أصبحت فيما بعد ضابطا للسلوك الطلابي العام. وقد قاموا بكتابة تلك النظم على لوحات إعلانية شبيهة باللوحات المرورية ، وتم وضع تلك اللوحات في أماكن مختلفة من الفصول وقد أصبحت تلك اللوحات دليلا إرشاديا منظورا لما يجب أن يكون عليه السلوك القويم داخل الفصل، كل تلك الإبداعات جاءت من الطفل الموهوب الذي تعلم مبكرا كيفية التجاوب مع الأحداث، فالتسليم بالأمور دون اعتراض أو نقاش، والبحث دوما عن السبل الأقل وضوحا والبعيدة عما هو معتاد. القوة الشخصية إن الأطفال يعتمدون علينا في الدفاع عن كل ما يميزهم وما يتفردون به، إن دعم الروح الإبداعية لديهم يبدأ بالإشادة بالهوايات الفنية للطفل أو إحاطته بجو عائلي فيه الكثير من الانفتاح على الأصالة والخيال. ولكن بنظرة عميقة يتبين لنا أن العملية الإبداعية تحمل في طياتها ما هو أكبر من ذلك، فالممارسة اليومية للإبداع في مجال الرسم الذي يعتمد فيه الأطفال الموهوبون على مصادرهم الخاصة يعتبر عملا إبداعياً، وعندما يلقى هذا العمل الدعم من الوالدين فإن ذلك سوف يجلب للطفل إحساسا بالكرامة والقوة الشخصية تظل ملازمة له طوال حياته. وليفهم الآباء أن الظروف المجتمعية والمدرسية المقيدة للحريات كما السجون لا يمكن أن تجرد هؤلاء الآباء أو أطفالهم من تلك “القوة الشخصية” التي تمكنهم من الصمود والتي هي إحدى الهبات الخفية لروح الإبداع.