فرحة عارمة تجتاح جميع أفراد ألوية العمالقة    الحوثيون يتلقون صفعة قوية من موني جرام: اعتراف دولي جديد بشرعية عدن!    رسائل الرئيس الزبيدي وقرارات البنك المركزي    أبرز النقاط في المؤتمر الصحفي لمحافظ البنك المركزي عدن    خبير اقتصادي: ردة فعل مركزي صنعاء تجاه بنوك عدن استعراض زائف    حزام طوق العاصمة يضبط كمية كبيرة من الأدوية المخدرة المحظورة    مع اقتراب عيد الأضحى..حيوانات مفترسة تهاجم قطيع أغنام في محافظة إب وتفترس العشرات    هل تُسقِط السعودية قرار مركزي عدن أم هي الحرب قادمة؟    "الحوثيون يبيعون صحة الشعب اليمني... من يوقف هذه الجريمة؟!"    "من يملك السويفت كود يملك السيطرة": صحفي يمني يُفسر مفتاح الصراع المالي في اليمن    تحت انظار بن سلمان..الهلال يُتوج بطل كأس خادم الحرمين بعد انتصار دراماتيكي على النصر في ركلات الترجيح!    الهلال بطلا لكأس خادم الحرمين الشريفين    تسجيل ثاني حالة وفاة إثر موجة الحر التي تعيشها عدن بالتزامن مع انقطاع الكهرباء    براندت: لا احد يفتقد لجود بيلينغهام    الحديدة.. وفاة عشرة أشخاص وإصابة آخرين بحادث تصادم مروع    تعز تشهد مراسم العزاء للشهيد السناوي وشهادات تروي بطولته ورفاقه    مصادر دولية تفجر مفاجأة مدوية: مقتل عشرات الخبراء الإيرانيين في ضربة مباغتة باليمن    المبادرة الوطنية الفلسطينية ترحب باعتراف سلوفينيا بفلسطين مميز    شاب عشريني يغرق في ساحل الخوخة جنوبي الحديدة    الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين: 18 ألف أسرة نازحة في مأرب مهددة بالطرد من مساكنها مميز    خراب    عاجل: البنك المركزي الحوثي بصنعاء يعلن حظر التعامل مع هذه البنوك ردا على قرارات مركزي عدن    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 36 ألفا و284 منذ 7 أكتوبر    الحوثي يتسلح بصواريخ لها اعين تبحث عن هدفها لمسافة 2000 كيلومتر تصل البحر المتوسط    السعودية تضع شرطًا صارمًا على الحجاج تنفيذه وتوثيقه قبل موسم الحج    لكمات وشجار عنيف داخل طيران اليمنية.. وإنزال عدد من الركاب قبيل انطلاق الرحلة    بسبب خلافات على حسابات مالية.. اختطاف مواطن على يد خصمه وتحرك عاجل للأجهزة الأمنية    حكم بالحبس على لاعب الأهلي المصري حسين الشحات    النائب العليمي يؤكد على دعم إجراءات البنك المركزي لمواجهة الصلف الحوثي وإنقاذ الاقتصاد    قتلى في غارات امريكية على صنعاء والحديدة    الإخوان في اليمن يسابقون جهود السلام لاستكمال تأسيس دُويلتهم في مأرب    هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمراته    جماهير اولمبياكوس تشعل الأجواء في أثينا بعد الفوز بلقب دوري المؤتمر    مليشيا الحوثي تنهب منزل مواطن في صعدة وتُطلق النار عشوائيًا    قيادي في تنظيم داعش يبشر بقيام مكون جنوبي جديد ضد المجلس الانتقالي    بسبب قرارات بنك عدن ويضعان السيناريو القادم    تقرير حقوقي يرصد نحو 6500 انتهاك حوثي في محافظة إب خلال العام 2023    لجنة من وزارة الشباب والرياضة تزور نادي الصمود ب "الحبيلين"    تكريم فريق مؤسسة مواهب بطل العرب في الروبوت بالأردن    الامتحانات.. وبوابة العبور    رسميا.. فليك مدربا جديدا لبرشلونة خلفا للمقال تشافي    شاهد .. الضباع تهاجم منزل مواطن وسط اليمن وتفترس أكثر 30 رأسًا من الغنم (فيديو)    الوجه الأسود للعولمة    مخططات عمرانية جديدة في مدينة اب منها وحدة الجوار    هل يجوز صيام العشر من ذي الحجة قبل القضاء؟    حكاية 3 فتيات يختطفهن الموت من أحضان سد في بني مطر    تحذير عاجل من مستشفيات صنعاء: انتشار داء خطير يهدد حياة المواطنين!    الطوفان يسطر مواقف الشرف    وزارة الأوقاف تدشن النظام الرقمي لبيانات الحجاج (يلملم)    لا غرابة.. فمن افترى على رؤيا الرسول سيفتري على من هو دونه!!    اعرف تاريخك ايها اليمني!    تحذير هام من مستشفيات صنعاء للمواطنين من انتشار داء خطير    رسالة غامضة تكشف ماذا فعل الله مع الشيخ الزنداني بعد وفاته    جزءٌ من الوحدة، وجزءٌ من الإنفصال    المطرقة فيزيائياً.. وأداتياً مميز    الفنان محمد محسن عطروش يعض اليد السلطانية الفضلية التي أكرمته وعلمته في القاهرة    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكويت..صباح لايعرف الغروب
امبراطورية الحبر والضوء.. شعبها « 200مليون عربي» وحدودها رموش القراء
نشر في الجمهورية يوم 04 - 08 - 2009

فيما كانت السيارة تقلني صوب المطار، مغادراً الكويت ، في ساعة مبكرة من صباح (( 17 )) مايو الفائت ، كانت صناديق الإقتراع تطرح توليفة نيابية جديدة ونوعية ، للمقاعد الخمسين في مجلس الأمة .
بدت زيارتي للدولة ، التي ترعرعت في مصب حبر مطبوعاتها الثري والغزير ، أشبه بحلم قصير بين إغفاءة وإفاقة . تقت للتسكع في مجاهيل المكان علَّني أعثر على مدخلي الخاص إلى منابع الزهو والثراء والدهشة فيه ، غير أني أفقت ، بعد خمسة أيام من الغوص في صخب مراكز الاقتراع ومهرجانات الدعاية واللقاءات الصحفية الخاطفة وأحاديث السياسة ، على صوت أنثوي ناعس النبرة يهيب بالمسافرين اللحاق برحلة الكويت- دبي !جواز سفري الموشوم بتأشيرتي الدخول والخروج ، ربما يشفع لي لدى مراقب الدوام وشئون الموظفين . لكن ليس لدى قارئ يطمع في أكثر من مجرد لطخة حبر على جواز ، ليتحقق من واقعة زيارة تلوح الآن - كرشفة لم تثمل لها الحواس !
● ● ●
- يصف السوريون بلدهم (( بأكبر بلد صغير في العالم )) ، وهو وصف يسري كذلك - على هذا البؤبؤ المكاني الناتئ شمال شرق الخليج العربي ، بين بلدين كبيرين (( العراق - السعودية )) .
- تحررك الكويت - تماماً من ملابسات الشعور بأنك تدلف بلداً خليجياً يتغرغر بالنفط ..النفط فحسب . لايبحث معظم من قابلتهم ، في عيون زائر غير خليجي ، عن إنكسار متوقع إزاء فارق عملة ، وفائض قيمة اجتماعية، يلتذون به، ويقيسون قاماتهم عليه . لقد تطهَّر الكويتيون - في الغالب - من خطيئة (( جيولوجية )) اسمها النفط ، بتوظيفه في بناء الإنسان .
مطاردة المباني والأبراج الشاهقة و (( المولات )) ليست المبهج الأوحد والوجهة الأهم في (( أجندة الزائر ))، إذ أن قيمة المكان تكمن في (( الأعمق و الأجدر )) لا في (( الأطول و الأكبر )) ،وفيما لو قصدت الكويت لتتسلىَّ بإحصاء أعداد الطوابق ، أو لتفغر فاك في أسواق متخمة بجديد الماركات العالمية ، ويتوه فيها المرء ، فإنك ولاريب - تكون قد أخطأت الوجهة ، ويتحتم عليك - منذ الآن - أن تبحث عن مباهج من هذا القبيل في بلد
آخر .. كأن تزور (( دبي )) أو (( الرياض )) .
- خلال عقود ما قبل الطفرة النفطية و العقود التالية لها ، تخلَّقت بين المواطن العربي خارج أسوار النفط ، وبين دولة الكويت ، صلات مغايرة تماماً ، لصلاته بالبلدان الخليجية الأخرى ..
بجدارة وعفوية تدفقت الكويت في المزاج العام للشارع العربي عبر (( نوتة الموسيقى )) وحنجرة الفنان وستارة المسرح وعوينات المثقف وعبق الحبر ، وفضاءات اللوحة التشكيلية ، وأنساق الأنشطة الإنسانية والنتاجات المعرفية المختلفة . فيما ظلت صلة العربي بالضفاف الأخرى لبحيرة النفط ، مقصورة على دكاكين الصرافة وعقود العمل المغرية بنقلة معيشية واحتمالات رفاه نسبي .
- كان الارتياد الأسبوعي والشهري للمكتبات والأكشاك ، ولايزال ، بالنسبة لغالبية القراء العرب ، موعداً وردياً مع الكويت ؛ وفي أذهان الفئات العمرية الدنيا تعزز هذا البلد باعتباره المعادل الموضوعي لطيف الطفولة الزاهي ، ذي الإيقاع الحلو ، الذي يشرق على قسمات شخوص مسلسلات (( الكارتون المدبلجة ))، وفي شفاه (( فلونة ، وعدنان ولينا وأسرة شارع عشرين في " إفتح ياسمسم " .. )) .
- غياب كيدية الرسمي المتربِّص ، في قناطر العلاقة التي عبر الكويتي من خلالها باكراً- صوب محيطه العربي الواسع ، هي الريشة السحرية التي عمَّقت إنطباعاً صادقاً ، عن بلد لا يقف فيه السياسي بالكرباج والهراوة ، على رأس الإنسان باختلاف توصيفاته وميوله .
لقد حافظت هذه المزية الأصيلة على خطوط لوحة العلاقات الكويتية - العربية ، نابضة ودافئة ، وحرستها من التأثيرات السلبية لرياح العابر والمرحلي ؛ كما راكمت رصيداً متنامياً لدولة الكويت لدى الشعوب العربية بدرجة رئيسية وعلى مستوى الأنظمة تالياً .. كامتداد لذلك ، كانت الكويت - دائماً - حياة خارج السفارات ، لا سفارات خارج الحياة ، ولم تقطع مقاصل ما بعد الغزو ، عصب صلتها الحيوي بعمقها العربي ، على المستويين العام و النخبوي .
- يعتقد الكويتيون - محقِّين - بأن حضورهم الحيّ في والوجدان العربي والإقليمي والدولي ، هو السياج الصلب الذي تكسرت عليه ترسانة الاستقواء العسكري وطيش الخوذات ونظرية النظام الفحل .
- في ذروة إشتعال المشهد العربي حول حدث الغزو ، كان الشاعر الكبير عبد الله البردوني ، يقرأ أفق تحولاته البعيد من محبس عماه ، وبالتجديف بعيداً عن سذاجة الانحياز لحماقة الخوذة ، استطاع الجزم ببداية النهاية لها وانقلاب الغازي إلى مغزوِّ
((سقط الوقتُ كسيحاً فوقهُ
وهْو مِن قبل سقوط الوقت أكْسَحْ
لا الذي مات هنا ، أغفى ولا
أصبح الغازي مِن المغزِّو أنْجحْ ))
- دعونا نحصي خسائرنا - كعرب - منذ أطلق الجنرال صافرة (( الإجتياح القومي )) . كان لدينا بلد صغير إسمه الكويت يتسع ل(( مائتي مليون عربي )) . أصبح لدينا بلد كبير اسمه العراق يضيق بأبنائه ، ويتشظَّى إلى عشرات القطع الصغيرة !
● ● ●
- كنت كمن يهرول في الإتجاه المعاكس لمجرى النهر ، متشوقاً لبلوغ المنبع . أريد أن أشاهد عن كثب كيف تتكاثف القطرة قبل أن تنهمر وابلاً ثرياً ؟! كيف تتخلق الحروف لتصبح كل هذا الدفق الفائر بالمعنى ؟!
كيف يبدأ هذا (( المارش المعرفي الجميل )) من أروقة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، ليجوب العالم؟! .. كيف تتحول (( العربي )) إلى جامعة عربية مفتوحة على إنسان الشارع ، بدءاً من حزمة مفردات؟!..
- كنت أهرول بالعكس من المصب ، وطيلة خمسة أيام عشت قريباً من المنبع ، ولم أفلح في الوقوف عليه !
دوَّنت رتلاً طويلاً من الأسماء التي أدين لها بالكثير من الفضول والإعجاب والوعي وعلامات الإستفهام .. أسماء ملأت بجدارة فراغات عديدة في المشهد الفكري ، الأدبي ، الفني و .. السياسي ، العربي .
لعل - تصوُّري الجغرافي عن بلد يتوسد (( 17.825 ألف كم² )) ، ويسهل طيُّ أطرافه في زمن وجيز، قد حرَّض لديَّ تصوُّراً واهماً بإمكانية طيِّ جغرافيا الإنسان المبدع بالسهولة نفسها .
ما أكتبه الآن يمكن اعتباره مرثية خيبات لمجنون عشق ، مرَّ على ديار الأحبة واستغرقه السؤال : أيَّ باب أقرع أولاً ؟! وسرعان ما تلاشى الوقت ، وحمله شقاؤه بعيداً عنها .
- يشبه الحال - أيضاً - مشهد (( جيفاجو )) وهو يقرع زجاج الحافلة المندى بندف الثلج ، ليلفت نظر ابنته وهي تعبر صدفة قيد همسة منه ، بعد عمر من القطيعة القسرية وانقطاع الأخبار .. كان (( جيفاجو )) متعباً بفعل الكهولة والربو ، وعندما انفتح باب الحافلة ، ركض صوبها متعثراً بالثلج الكثيف و.. تهاوى جسده جثة هامدة قبل أن تلتفت ..
- و الكويت بلد يُعشق بمعزل عن النفط ، لأن قامة المثقف فيه ليست أقل ارتفاعاً من أبراجه الشهيرة ، والمطبعة ليست أثمن من دماغ المبدع .. ولسان المواطن الكويتي أكثر حرية من هراوة رجل الأمن في بلد عربي آخر .
- يقول الإعلامي الكويتي سامي النصف ، مفسراً تباطؤ وتيرة العمران في الكويت قياساً ببعض دول الجوار الخليجي ، إنها مقاربة اقتصادية تُوازن بين (( تنمية الحجر وتنمية البشر )) .
- يمثل هذا التباطؤ العمراني الملحوظ ، هاجساً بالنسبة لشريحة من المثقفين ، ويحضر كأحد أبرز الأوراق التي تشهرها النخب المعارضة ، في سجالها السياسي مع الحكومة ، ف(( الفساد - برأيهم - هو سبب رئيسي وراء بنية تحتية لا تزدهر بالوتيرة المطلوبة )) .
إحدى مفارقات الكويت ، تكمن في أن لديها ما هو أثمن من النفط ، إذ على عاتق إنسانها المؤهل ، ومجتمعها الذي انتقل معيار الأمية فيه إلى خانة التعاطي المحترف مع الحاسوب ، علاوة على هرم من الدرجات العلمية العليا ، يمكن - بمعطيات إنسانية نوعية كتلك - تخليق اقتصاد موازٍ رافعته المحورية الإنسان المنتج ؛ كطاقة بديلة للرهان الوحيد على ريع النفط ، في الدخل القومي .
- تتمثل مفارقة أخرى ، في كون الحريات السياسية تسير بمحاذاة حضور الدولة كداعم في مختلف الشئون المعيشية للمواطن ، والخدمات شبه المجانية التي تلتزم بها حياله منذ لحظة الولادة ؛ الأمر الذي - يرى البعض - بأنه يعيق تحوُّل المواطنين إلى دافعي ضرائب ، ويجعل من الديمقراطية ممارسة ترفية ، كما يبقي على العقد الإجتماعي رهناً لأبوية الدولة .
- ثمة قضية (( البدون )) أيضاً ، وهم شريحة اجتماعية تمثل نسبة كبيرة من السكان ، استوطنوا المكان - وافدين من بلدان مختلفة كفلسطين والعراق وسوريا - في حقب تاريخية متفاوتة ، يعود بعضها لمطلع القرن العشرين . لكنهم لا يتمتعون بأي من الحقوق المكفولة للكويتي ، بما في ذلك حق الحصول على وثيقة سفر أو عقد زواج شرعي من الجهات المعنية في حكومة دولة الكويت .
- لقد أثارت قضية حرمان الكاتبة والأديبة سعدية مفرح ، قبل أعوام مضت ، من وثيقة سفر تتيح لها تسلُّم جائزة أدبية فازت بها في القاهرة ، جدلاً واسعاً في أوساط المثقفين العرب ، ولفتت الانتباه بشدة إلى وضع شريحة (( البدون )) المزري والغير متسق مع مناخ الحريات السياسية والعامة الذي تشهده الكويت .
- إن غالبية المنتسبين للمؤسستين العسكرية والأمنية ، ينتمون إلى هذه الشريحة ؛ وفي الغالب فإنهم يعاملون بنظام العقود كأجانب ، وأقصى رتبة عسكرية يبلغونها ، هي رتبة (( وكيل أول أي ملازم أول )) .
- حين سألت وزير الإعلام الكويتي ، في المؤتمر الصحفي المعقود حول حدث الإنتخابات ، فيما إذا كان لدى قيادة الدولة نية أو خطة ما ، لتمكين شريحة (( البدون )) من المواطنة والشراكة السياسية في قادم الأيام ، كان جواب معاليه حاسماً ((إنني أتحدث عن الكويتيين فحسب .. )) .
- لقد كنت قادراً على طرح السؤال . لذا فقد اكتفيت بهذا المكسب . قبل ذلك بأيام كان سعادة سفير الكويت لدى اليمن قد قال لزميلي عبد العزيز الهياجم في لقائه به ((لا نريدكم أن تمتدحوا .. انقلوا الواقع ، ولاشيء سواه )).
إن بين ((البدون)) عدداً من المبدعين لا يتسع السياق لرصدهم ، وعدم توطينهم ، تحت أي شكل من الأشكال ، يخدش زهو المشهد الكويتي ، ويضر بمستقبل هذا البلد الليبرالي النائي بإنسانه عن فيالق الهراوات والقمع والإقصاء الشرق أوسطي .
● ● ●
- قاعة الفندق الفسيحة تكتظ بالنزلاء والزوار . قصدت وزميلي مقعدين فارغين حول طاولة عليها منافض سجائر ، وبحرقة وحرمان رحلة استغرقت ساعات ، أشعلنا لفافتين .
إلى جوارنا كانت امرأة أربعينية سمراء بشعر قصير مقصوص مألوفة الملامح ، تدير حديثاً - بدا لنا ودوداً ، مع بضعة رجال يبادلونها احتفاءً خاصاً ، وبين الحين والأخر كانت تنهض لتصافح أشخاصاً من جنسيات مختلفة ... ((هل أخذنا مكان أحدهم ؟!)) رفعنا صوتينا بالسؤال .. (( لا لا .. أهلا وسهلا اقعدوا)) ردت السيدة بابتسامة صادقة .
- في اليوم التالي في غرفتي كنت أقلِّب صفحات إحدى الجرائد الكويتية ولمحت صورة المرأة على مقالة قصيرة ممهورة باسمها ، في الصفحة الثانية .
حملت سؤالاً مشدوهاً إلى زميلي الهياجم ((أتعرف من كانت السيدة ؟!..)) .. (( إنها الأميرة فريحة الأحمد الجابر الصباح ، شقيقة الأمير الراحل رئيس الدولة )) .
- يحصل أن يُعد شقيق زعيم عربي ((سيناريو لمشهد شبيه)) يظهر خلاله مجرداً من الحراس ومن هالة رسمية تفرد قطراً مكانياً واسعاً لإحتضان خطواته ، لكن مشهداً كهذا هو مألوف يومي ، لا يطمع من خلاله أمراء وأميرات الكويت ، في حصد الإعجاب المحلي . إنهم يعيشونه بالعفوية ذاتها التي يقضي المواطن العادي بها فصول حياته اليومية ، وعندما تكتب الأميرة مقالاً لصحيفة ما فإن هيئة التحرير لا يفردون لها صدر الأعمدة والمساحات الرئيسية ، بل عمود ونصف عمود في صفحة داخلية.
ثمة تفسير لتلك العفوية والسلاسة التي تردم بها الأسرة الحاكمة في الكويت ، الهوة المعتادة بين القصر والشارع ، فمنذ نشوء الإمارة في ((1613م)) ، واستقلالها لاحقاً ((19 يونيو 1961م)) لم تكن العلاقة بين الطرفين ممهورة بالدم ، كما لم يقم البناء السياسي على رافعة الغارات والإستحواذ والضم .
قبل أن يثب هذا البروز المكاني الجميل في شمال شرق الخليج ، كانت المساحة شاغرة إلا من أكواخ تتناثر على تماس الرمل بالماء ، ويشتغل قاطنوها بالصيد والغوص وراء اللؤلؤ المخبوء في القعر .
ما الذي شد الهجرات السكانية الأولى إلى مكان شحيح بلا ماء ولا موارد كهذا ؟! يطرح الدكتور خليفة الوقيان سؤالاً شبيها ، ثم ينتهي للقول بأن الهجرات الأولى المستوطنة للمكان ، ليست - بالقطع - هجرات بدوية يحثها الماء والمرعى للإنتقال في العادة ، بل مجاميع وافدة من مراكز حضرية لم تستوعب ميلها المتنامي للتمدن و الفكر الحر والانفتاح الإجتماعي والثقافي ، هكذا فقد وجدت الموجات النازحة الأولى ، في المكان متسعاً أبيض للتعايش وتأسيس فضاء اجتماعي منفتح يسوده التسامح الفكري والجدل عوضاً عن الإقصاء .
من اليسير أن تتنفس شبهاً جلياً بين حياة المجتمع الكويتي ، والمجتمع العدني ، في المزاج الجمعي للناس ؛ حيث الأنساق الخاصة ، تأخذ مجراها في الفضاء العام ، دون أن تلتهمه أو تتسيده ، وبمنأى عن ثقافة الغلبة . سرعان ما يفتح المشهد ذراعية للوافد ، إذا أمكن له أن يتقاطع - بالإيقاع نفسه - مع قيم المكان التي تمثل في حد ذاتها هوية مفتوحة على جدل التنوُّع .
أثناء الدعاية الانتخابية ، كانت منابر السلفيين تشهر سياط التأويل لكسر زخم الحضور النسوي في العملية السياسية . لكن لا القول بأن (( صوت المرأة عورة )) ولا تحريم (( الإختلاط ))، كان قادراً على ترويض خصلات الشعر المرسل والتنانير الملوَّنة وبناطيل الجينز و رجع الحناجر الناعمة ، المتماوجة كخلجان من الجموح على مداخل وفي أفنية وساحات مراكز الإقتراع .
في النهاية أفسحت ثقافة الأربع زوجات الطريق - لأربع نساء شغلن مقاعد برلمانية للمرة الأولى - تحت قبة مجلس الأمة الكويتي .
وسط هذه الأنساق المتجاورة والمتضادة ، تبرز حيادية الدولة وانتفاء تغليبها لنسق على آخر ، ويعكس هذا الحياد نفسه على هيئة برلمان لا تدوم مقاعده لأحد ، ففي حين تسيد الإسلاميون على غالبيتها في الدورة النيابية الفائتة ، دخل ((الليبراليون والشيعة والمرأة )) بوفرة عددية استثنائية هذه المرة .. هذه المرونة
المفرطة - وإن بدت ميزة في نظر البعض - هي ما يعزو إليها البعض الأخر، الفراغ الحكومي المتكرر وعدم التمكين ، فخلال السنوات القليلة الفائتة سحبت الثقة عن ثلاث حكومات ، بفعل كتل برلمانية لا تنفرد إحداها بأغلبية مريحة تتيح لحكومتها الإستمرار وتعطيل طلبات سحب الثقة .
قد يحيل هذا إلى الإعتقاد بأن حالة ما من التوافقية السياسية تحكم علاقة أطراف اللعبة ببعضها . لكنني أرجح أن ذلك يرجع لتعدد أجندات العمل على مستوى الإئتلاف الواحد ، ما يفضي إلى شتات القوائم المشكلة له ، مقلصاً إمكانية الإجماع والوصول إلى صيغ عمل مشتركة .
تملك الدكتورة معصومة المبارك - وهي وزيرة سابقة و إحدى الفائزات الأربع في دورة مايو الفائت - أجندتها الخاصة كامرأة ، غير أنها تكاشف بانتمائها المذهبي إلى الشيعة ؛ فأين تتقاطع هاتان الأجندتان وأين تفترق؟!..
لنفي تعارض الهويتين - إن جاز الوصف - تقول معصومة : إن الشيعة هم أكثر الطوائف الإسلامية تمكيناً للمرأة على مستوى الحقوق .
- أما فائزة العبد الجليل - وهي مرشحة لم يكتب لها الفوز - فتؤكد أولوية همومها كامرأة على كل ما عداها ، وتحصر أجندتها في حال دخلت البرلمان في النضال ل : حقوق المطلقة ، الإسكان ، فرص العمل ، التأمين الإجتماعي . تقول بإصرار وحسم ((لن نسمح بأن تكون المرأة سلماً ذكورياً .. )) .
حين استأذنتها بالتقاط صورة لها ، اعتذرت بدبلوماسية وثقة ، و وعدتني بأن تبعث صورتها إلى بريدي ، حالما تفوز .
يحدوني أمل أن تحتل مقعداً في دورة نيابية قادمة ، لتنفذ وعدها .
● ● ●
- أتخيل حزن سعاد الصباح ، في أحد صباحات عاصمة الضباب ، وهي تستيقظ بلا هوية وبلا وطن ، على سياج سفارة بلدها التي صادرتها ((خوذة القومجة البلهاء)) أغسطس - 1990 م .
أتخيلها تستيقظ على جرحين : عمها المتوفى في أحد مشافي لندن ، ووطنها السليب .. وعلى فحيح سائق دبابة أطعمته حلوى شعرها ذات يوم ((ماكو عودة للمحافظة ال19)) ..
أتخيلها تنسحب بكبرياء جريحة لترسم بنزف الروح ((صباح الغزو )): ايها الآتون في الفجر على دبابة.. من رأى دبابة تجري حوارا.. لاتلوموني اذا جن جنوني فهي لم تترك لإنساني خيارا
- إنها الكويت حيث الضفيرة تروض جموح الشارب ..
حيث ((حروف الصباح)) تحرس حدود الضوء ، من غارات ظلام الغزاة والقراصنة ..
حيث لا يتعافى المصابون برائحة حبرها من داء المعرفة المزمن ..
وحيث لن أتعافى من رغبة قاهرة ، في تمسيد مسامات قمرها الطفل الغافي على زرقة مياه
الخليج العربي ، مجدداً .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.