يولي العالم الحديث الشعر قليلاً من الاهتمام ، وذلك ، أن القلة من الطبقة المثقفة هي التي تهتم بالشعر ، هذا على الرغم من أن قدراً كبيراً من الشعر وصل إلينا عن طريق الصحافة خلال العشرين سنة الماضية ، ويعتبر غير المهتمين بالشعر أن هذا دليل على زيادة الإهتمام بالشعر ، بل ويعتبرون هذا دليلاً على كثرة المواهب أيضا ، هكذا يؤكد جامعو وناشرو المختارات الأدبية ، فهم يقدمون أكثر الإدعاءات تطرفاً عن العصر ، كتب مستر ج . س . سكوير في مقدمة كتابه “ مختارات من الشعراء المحدثين “ : ( إن مما لا طائل من ورائه بنهضة شعرية دون تعديلات جوهرية) ويقدم مستر هارولد مونرو لكتابه “ شعر القرن العشرين “ بقوله ( لقد تركت الحركات الشعرية تأثيرات مختلفة على ملامح الشعر الإنجليزي “ الخالد “ .. وهنا يثور سؤال .. هل يجب أن نصف عصرنا بالازدهار الأدبي لمجرد أن خمسين رجلاً كتبوا قصائد تتميز بالقدرة على سبر غور الحقيقة كما تتميز بالجمال؟!! .. بمثل هذا اليقين رحت أؤلف هذا الكتاب ) ويضيف بكثير من التطرف ( هل هذا العصر يعتبر عصر إنتاج أدبي كبير؟!.. أم هو عصر الإنتاج البسيط؟ .. فليجيب من يستطيع .. قال شخص كنت أناقش معه هذه المسألة “ إن الجميع متشاعرون وليسوا شعراء ، من الذي سوف يقرأهم بعد قرن من الآن ..؟” ، “ إن هناك الكثيرين من الشعراء، والذين سوف يبدو بعد قرن من الآن أنهم يشكلون حركة شعرية مركبة، ربما يوجد حوالي مائة شاعر قدموا حوالي خمس مائة قصيدة جيدة .. ربما لا يكون هذا قدراً كافياً، ولكنه يستحق الذكر بعد قرن من الآن. ومثل هذه الإدعاءات أعراض للضعف الفكري الشديد الذي يعانون منه ، ويمكنهم إطلاقها فقط على عصر لا توجد فيه حركة أدبية جادة بهذا المستوى ، ولا على هذه التقاليد الشعرية الحية ، ولا على هذا الجمهور القادر على إمداد الحركة بهذا الاهتمام الشديد ، ولا على هذا القدر الهائل من الشعر الذي يتم اختياره بعناية فائقة ويقدم إلينا كخلاصة بالغة النقاء للشعر الحديث . وبالنسبة للقدر الأكبر مما يقدم من الشعر ، فهو إن لم يكن عاديا فهو ليس سيئا للغاية، مع أنه غير موار بالحياة والحيوية ، فالكلمات الراقدة هناك . المصفوفة على الصفحة، ليس لها جذور، فالكاتب نفسه لم يولها إلا اهتماماً سطحياً فقط ، وحتى بالنسبة للشعر الأصيل الخالي من الرياء والتكلف فهو بنوعه وماهيته يؤدي إلى القول بأن العصر الحاضر لا يساعد على تهيئة الجو لنمو الشعراء . ويقودنا كتاب ( الشعر الفيكتوري ) الذي أصدرته جامعة أوكسفورد إلى القول بأنه لابد أن يوجد خطأ ما خلال الأربعين أو الخمسين سنة الأخيرة على الأقل . وكما يبدو فإن عدد الشعراء المبدعين الذين يولدون يختلف كثيراً من عصر إلى عصر كما يدل على ذلك التاريخ الأدبي .. فما هو الاختلاف؟؟ وما هي العوامل التي تؤثر في الموهبة؟؟ وما تأثير كل عصر على محصول المواهب؟؟ هذا التأثير الذي تحدده إلى درجة كبيرة الفكرة المسبقة عن التيار الشعري، والعادات السائدة، والأعراف، والتقاليد، والمذاهب الفنية، وهناك بالطبع أحوال أخرى على جانب كبير من الأهمية، مثل الأحوال الاجتماعية، والأحوال الاقتصادية، والتيار الفلسفي.. وهكذا .. ولكن اهتمامي الأساسي ينصب على النقد الأدبي، وأنا أحدد نفسي على قدر الإمكان بهذه الأحوال التي تؤثر في الشاعر، ويبقى تأثيرها معه طوال حياته، وهذا هو النقد الذي يؤثر ويعدل في هؤلاء المهتمين الجادين . وهكذا .. فلكل عصر أفكاره وظواهره وتصوراته الخاصة تجاه الشعر، وهذه هي الأفكار والموضوعات الشعرية الأساسية، وهذه هي الأدوات الشعرية، ونحن نحتاج إلى الذكاء الشديد لكي نعي هؤلاء الذين نريد أن نفهم إبداعاتهم، ونحن نأخذ أفكارنا وتصوراتنا من القرن الأخير، وهو العصر الذي نبغ فيه الرومانسيون العظام أمثال وردثورث، كوليردج، بايرون، شيللي، كيتيس، وفي محاولتنا للتعرف عليهم، علينا أن نسير بحذر شديد في طرق مليئة بالغموض لكي لا نضل في شخصيتهم لأن السر في عظمتهم يكمن في لا محدوديتهم. وربما يرجع تكوينهم إلى البيان الذي ضمنه جوزيف وارتون في إهدائه في مقدمة كتابه (مقال في العبقرية والكتابية) وهو يرجع إلى 1756م ، الذي تحددت فيه بشكل واع الأفكار السائدة بصراحة ووضوح، حتى أصبحت هذه الأفكار فيما بعد أمراً غير قابل للنقاش. ( يبدو أننا لا نعي الفر ق بين الرجل الحكيم، ورجل العلم، والشاعر الحقيقي.. إن كلاً من (دون)، و(سويفت) بلا شك من رجال الحكمة ، ورجال العلم.. ولكن .. ما الأثر الذي تركاه على الشعر الخالص؟ ومع ذلك .. فإن السؤال في حد ذاته يؤكد أنهما تركا آثارا على حركة الشعر، إن السمو والعاطفة هما العنصران الأساسيان في كل الشعر الأصيل.. فماذا سوف يبقى بعد كل هذه الخبرات الرفيعة سامياً وعاطفياً عند بوب ؟! )، ويستمر وارتون ليصنف الشعراء الإنجليز (سأضع في الطبقة الأولى ثلاثة من الشعراء الذين يتصف شعرهم بالسمو والعاطفة : سبنسر، شكسبير، وميلتون ). هذا تقسيم خادع، فهو يحدد بإحكام كاف فكرة القرن التاسع عشر عن (الشعري)، ونحن نلاحظ أن (وارتون) يضع (دون) في الطبقة الثالثة، وقد أصبح هذا الحكم غير ذي موضوع حينما ارتبط (دون) ب (شكسبير) في مقابل كل من (سبنسر) و(ميلتون)، وقد استطاع ماتيو أرنولد أن يجعل هذه الفكرة واسعة الانتشار وبديهية وغير قابلة للنقاش، وكان دليله على ذلك هو فكرته المشهورة الخاصة بالمضاد للحكمة، لأنه كان يعتبر نفسه ناقدا للأفكار المتعلقة بالتيار الشعري في زمنه. ( وهكذا، كانوا يكتبون النثر، .. وهكذا، يمكن أن يكونوا بصورة ما عمالقة في فن الكتابة النثرية .. ولذلك ، ( فدرايدان ) و( بوب ) ليسا من الكلاسيكيين في شعرنا، ولكنهما كلاسيكيان في فن النثر ) . ( إن الفرق بين الشعر الأصيل ، وشعر كل من دريدان وبوب وإضرابهما ، هو باختصار ، أن شعرهما مركب ومستنبط من حكمتهما ، ولكن الشعر الأصيل يكون مركباً ومستنبطاً من الروح ) . فأرنولد يرى ، ويشترك مع عصره في الإنحياز ضد التعرف على الشعر كما لو كان شيئاً جامداً ، ولكنه كما يصفه ميلتون ( بسيط ، حساس ، عاطفي ) فالشعر كما يزعمون ، يجب أن يكون التعبير المباشر عن المشاعر البسيطة ليرضي هذه الطبقة المحدودة من الناس مثل الشخص الرقيق المشاعر وصاحب الخيال الواسع، والشخص الحاد الطباع وعلى وجه عام، أصحاب المشاعر المشبوبة (ما زال بعض الدارسين الذين يأتون من المدرسة الثانوية إلى الجامعة يشكون فيما إذا كانت المهزلة شعر) هم يبحثون عن الحكمة، عن لعبة الحذلقة، وهي نوع آخر مختلف من الألعاب التي تجهد العقل، هؤلاء يستطيعون فقط أن يمنعوا القارئ من (التحرك) للاستجابة الشعرية الحقيقية . وهناك ملحوظة أخرى عن ( الشعري ) في القرن التاسع عشر ، وهذه الملحوظة تتضح لنا إذا ما أعدنا قراءة نصف دستة من القصائد المشهورة الجيدة ، إننا ندرك أن الشعر في القرن التاسع عشر كان مليئاً بالأفكار الجاهزة والمسبقة والمشحونة بفكرة خلق العالم الحلم ، بالطبع ليس كل الشعر ، وليس كل الشعراء ، ولكن الأفكار الجاهزة كانت السمة الغالبة ، حتى أننا نجد أن شاعرا قليل الشأن مثل أوشوجنيزي Oshaughnessy ، وهو شاعر ليست له ملامح شخصية ، حينما كانت تحركه مجرد الرغبة في كتابة الشعر فهو يكتب : نحن صانعو الموسيقى ونحن الحالمون بالأحلام نتجول عند أمواج البحر ونجلس عند التيارات المهجورة نتجول عند أمواج البحر نحن الضائعون والخاسرون الذين يسطع عليهم ضوء القمر الشاحب الأفكار الجاهزة، بحكم العادة، أصبحت عنصرا بارزاً في تيار الأفكار والمواقف والمشاعر التي تشكل ما هو (الشعري)، والتي غالباً ما نراها موجودة وفعالة، وإن كانت بشكل غير صريح، أو موجودة بصورة مضمرة وخفية، ولنأخذ على سبيل المثال السوناتا التي كتبها أندرو لانج (ولد عام 1844)، وقد كان باحثاً ومتذوقاً للأدب، وكان يتمتع بحس لغوي قوي، ورغبة في كتابة الشعر .. وباختصار كانت لديه كل مؤهلات الشاعر ما عدا أكثر المؤهلات ضرورة، وهي الحاجة إلى نقل وجهة النظر الخاصة جداً إلى الآخرين، والسوناتا التي كتبها تعتبر واحدة من أمتع القصائد الموجودة في (كتاب أوكسفورد للشعر الإنجليزي) إنها توضح بأمانة كاملة نوع الثقافة التي كانت سائدة خلال الجزء الأخير من القرن الماضي. مثلما يرقد المرء تحت الفضاء الملول تهدهده الأغنيات السكرى في الحدائق، تحت الأشجار الكبيرة حيث نش الجزر وفقط، حيث غناء ناي الحب الحزين وحيث أشباح العشاق الشاحبة.. البعيدة وذلك مثلما يشتاق المرء لطعم ماء البحر الأجاج الملح على شفتيه، والهواء الكبير مسروراً من غناء الأحاديث يستدير الرجال، ليروا النجوم ويشعروا بالحرية وصخب الرياح خلف حاجز الأزهار الكثيف من خلال موسيقى الساعات المرتخية إنهم كما لو كانوا يستمعون إلى المحيط على الشاطئ الغربي كما لو كانت موجات متتابعة من الأوديسا وهي تعتبر وثيقة هامة لنبدأ بها، ففيها هذا الجو العام الذي تعلمنا أن نربط بينه وبين سنوات القرن التاسع عشر، والتي تبدو متأثرة بأعمال سوينبرن مثل (ناي الحب الحزين) و(الحدائق القريبة من السياج الشاحب) .. وهكذا إلى أن نصل إلى طبقة المتشاعرين الكبيرة في أواخر العصر الفيكتوري، وسوف يقلقنا هذا الانتشار الواسع النطاق لتينيسون، وحينما يرغب لانج في الهروب من (الموسيقى الساعات المرتخية) داخل (الهواء الكبير) للشاطئ الغربي، فهو يعود بالطبع إلى ماتيو أرنولد، ولكن، على الرغم من هذا التصميم الكامل لكي يذوب الهواء الكبير وهذا النجاح الذي حققه لانج.. فإن صوت النفير العالي التقليدي كما يقول النقاد وموسيقى الساعات المرتخية هو ما يسيطر على سوناتته . نحن صانعو الموسيقى ونحن الحالمون بالأحلام وإذا حلمنا بهومير وإذا حلمنا بالاستيقاظ فإننا نكون ما نزال في حالة الحلم ، وما زال يوجد شيء آخر في السوناتا ، شيء من كيتس،كيتس السيدة الجميلة القاية وتحت ظلال الأشجار حيث أشباح العشاق الشاحبة التي تمثل إلى حد بعيد (الشعري) في ذلك القرن . إن المتشاعرين لا يمارسون فقط التمارين الشعرية التي تحتوي على مثل هذه الأفكار المتخيلة والعادات والتقاليد ليؤكدوا ذواتهم ، ولكنهم يفرضون بذلك تأثيراً كبيراً على خط سير المواهب الأصيلة . يميل الشعر في كل عصر إلى أن يقيد نفسه بمجموعة من الأفكار الشعرية الأساسية التي إذا ما تغيرت الأسباب التي أوجدتها تمنع أو تعوق الشاعر عن الإمساك بأكثر الأشياء أهمية، الأشياء الأكثر تميزاً، والتي تتأثر بها العقول، والشعر يهمنا بسبب هذا الشاعر الذي هو أكثر إحساسا بالحياة من الآخرين أكثر حياة في عصره، وهو كما كان دائماً ضمير شعبه الحساس خلال عصره ( وهو كما قال ريتشاردز المنطقة التي يظهر فيها العقل وجوده وفاعليته ) والموهوبون في الخبرات الإنسانية لا يمكن أن يكتشفهم إلا القليل من الناس، والشاعر المهم يكون مهماً لأنه ينتمي إلى هذه الفئة القليلة (وبالطبع فهو لديه القدرة على التوصيل ) حقاً إن قدرته على التعبير وقدرته على التوصيل والاتصال غامضتان ، غير محددتي الشكل والبنية، ليس فحسب لأننا يجب أن نعرف أحدهما بمعزل عن الآخر، ولكن لأن قدرته على صناعة الكلمات التي تعبر عن شعوره غامضة وغير محددة وتختلف عن وعيه بما يشعر، وهو حساس بطريقة غير طبيعية ، إن وعيه أكثر جدية ، وأنه يمثل نفسه أكثر مما يستطيع الرجل العادي، هو يعرف مشاعره ، ويعرف الشيء الذي يهتم به . هو شاعر لأن اهتمامه بتجربته لا ينفصل عن اهتمامه بالكلمات ، لأن من عاداته استخدام الكلمات بشكل مثير للذكريات والمشاعر ولهذا فهي تكون لديه قدرة على التأثير ، ولذلك ، فهي قابلة للاتصال مع الآخرين ، والشعر يستطيع توصيل نفس هذا النوع من التجارب . ولكن إذا فقد الشعر القدرة على الامتزاج بروح العصر فسوف تقل أهميته بشكل كبير ، وسوف يفتقر العصر إلى نوع من الإدراك الأسمى ، وهذا التكهن الأخير يعني أنه ربما كان من المستحيل أن يثير اهتمام أي شخص لا يؤمن بأهمية الشعر ، ولذلك ، فإنه مما يؤسف له ، أن الشعر قد كف عن أن يثير الاهتمام بشكل واسع .