مضى مايقرب من سبعين سنة منذ أن بدأ أحمد نعمان سيره الحثيث الاستثنائي نحو التمرد على بيئته التقليدية الموروثة، للبحث عن مداخل للتغيير والتحديث، دون أن يطلع المؤرخين والمهتمين على حقائق تلك السيرة غير العادية، بحيث لاتكاد الأجيال الجديدة تعرف عنه شيئاً، أو لا تعرف عنه وعن العصر الذي عاش فيه سوى القليل. وأقول “العصر الذي عاش فيه “ لأنه بدأ كفاحه في عصر مختلف تماماً عن يمن الحاضر على الرغم ممايعيشه يمن اليوم من تخلف ومن صعوبات. ولقد تكلم كثيرون ممن جاءوا بعد نعمان (أو “الأستاذ” نعمان كما سماه الإمام أحمد حميد الدين وكما أصبح يعرف فيما بعد، حسب قول نعمان نفسه) فأصابوا أو أخطأوا، وقيل الكثير عن المرحلة التي مارس خلالها العمل التربوي والنشاط السياسي، لكن المؤرخين والمهتمين ظلوا ينتظرون شهادته من مصدرها الأصلي، أي منه شخصياً، وليس من خلال ماينقل الآخرون عنه، أو ما يعتقدون أنه فعل. ذلك لأن أية شهادة أخرى لاتسد الفراغ التاريخي الذي يتركه صمته الطويل. لأن شهادته لاتسرد حوادث تاريخ تلك الفترة فحسب، بل ترسم الخطوات الأولى الحائرة، والمفعمة بالطموح النبيل، في سيرة أولئك الرواد الذين فتحوا أعينهم على عصور الظلام فوجدوا القبول بها مهانة وذل، واستمرارها طريق انقراض وفناء. ولم يكونوا حين بدأت الأسئلة القلقة تعتمل في خيالهم يمتلكون منهجاً متاحاً أو حتى محتملاً للرفض والمقاومة والتغيير، ولايتوجهون إلى جمهور قابل للاستجابة لدعوتهم، يؤيدهم ويحيطهم بدفء مشاعره، بل غامروا وحاولوا، وطرقوا أكثر من باب، وتخبطوا وتمردوا، وتشردوا وسجنوا، وأخطأوا وأصابوا، حتى نجحوا بمرور الأيام القاسية المعذبة في اختراق ركام الظلام المخيف، وامتلاك جرأة تحدي حصار الاستبداد والعزلة، وبذر بذور التغيير بقدر ما استطاعوا وبقدر ما أتاحت لهم الأوضاع الصعبة التي عملوا فيها.
والحق أن الأستاذ نعمان يعد أنموذجاً لعدد قليل من الطلائع الأفذاذ الذين يمثلون جسراً بين القديم ومحاولات التمرد عليه للانتقال إلى العصر الحديث. فقد بدأ تكوينه الفكري في العقد الثالث من القرن العشرين بالدراسة الدينية التقليدية في زبيد كما تواصلت منذ مايزيد على ألف سنة دون أن يطرأ عليها سوى القليل من التغيير، ليبدأ فيما بعد أولى محاولات التجديد بالتمرد على زبيد نفسها. ثم شرع في منتصف الثلاثينات بنسج صلته ومن ثم صلة اليمن بالعالم الحديث، عن طريق نهل المعرفة الجديدة من القادمين من عدن وممايتسرب عبر هذه المدينة الرائدة من مطبوعات جديدة صدرت في الحواضر العربية التي سبقت اليمن في التفتح على العالم الحديث، مثل القاهرةوبيروت. وحين اضطره الاستبداد للخروج إلى القاهرة التقى هناك بمثقفين يمثلون الأمل العربي في نيل الحرية، من أمثال الفلسطيني محمد علي الطاهر، صاحب جريدة الشورى، وشكيب أرسلان، “أمير البيان” والمثقف العربي الداعي لتحرر العرب والمسلمين من السيطرة الاستعمارية، وغيرهما من الداعين لنهضة حضارية عربية ربما لم تتحقق بعد. وهكذا تعمقت صلته بدعوة التحديث والتنوير. ولعل هذا القدر الأصيل من تأثير حركة التنوير العربية ماابتعد به عن تأثير القوى التقليدية على الرغم من محاولات الإخوان المسلمين التأثير عليه، وما نقله إلى مواقع الاستنارة التي لن يتخلى عنها قط في جميع مراحل حياته، وجعله دائماً يفضل المشاركة الشعبية حتى ولو اتخذت طابع تمثيل الوجاهات مادامت الشكل المتاح للانتخاب والتمثيل الشعبي. وهو أيضاً ماسيجعله دائما على غير وفاق مع الحكم العسكري حتى ولو كان باسم الثورة والتغيير، لينتهي به المطاف قبيل اعتزاله السياسة نزيل السجون الحربية في مصر يلخص تجربته المريرة في التعامل مع أنظمة القمع في عبارة مأساوية في هزلها تقول إنه بعد أن أمضى عمره مطالباً بحرية القول قد أرغم على أن لايطالب سوى بحرية البول. وهذا دون شك ذروة المأساة التي واجهت ليس رواد التنوير العرب فحسب، بل كل عربي طالب بالتغيير، وهو مايلقي الضوء على الإخفاق الذي أصاب حركة النهضة العربية، وجعل المنطقة العربية تدخل القرن الواحد والعشرين وهي تواجه أسئلة النهضة والتنوير وكأنها ماتزال في مطلع القرن العشرين. كان الأستاذ نعمان قد خرج من السجن إلى بيروت في أواخر سنة 1967 حين كانت بيروت واحة لحرية التفكير، عله يستمد من أنفاسها الحرة مددا يتغلب به على دواعي الإحباط واليأس.
وحين كانت القوى الجمهورية الجديدة تصد حصار صنعاء واثقة من النصر ومن قدرتها على الدفاع عن وعود الحرية التي مثلها النظام الجمهوري، في وجه توقع الأعداء والأصدقاء سقوط هذا النظام، ربما لاحت في خيال نعمان تجربة زميله محمد محمود الزبيري الذي نفذ بأعجوبة من صنعاء المحاصرة سنة 1948 ليعيد بعد سقوط الحركة الدستورية تنشيط المعارضة من جديد. ولذلك لم يقبل نعمان إعلان “الجمهورية الثانية” (حسب تسمية موفقة اقتبسها المرحوم عبدالله البردوني) تعيينه عضواً في المجلس الجمهوري في 5 نوفمبر 1967، مفضلاً مواصلة الدور الذي تمرس على أدائه بحيث لم يعد قادراً على مغادرته حتى وهو يتولى منصباً رسمياً، أي دور المعارض المستقل برأيه، غير المستعد لأن يسكت على مايراه غير صحيح. وكان متوقعاً أن ينتهي به هذا السلوك إلى اختيار المنفى ليقضي بقية حياته حراً، قادراً على التعبير عن مشاعره إذا أراد، والسكوت عن قناعة، قبل أن ينأى بنفسه عن مشاغل الحياة كلها. ولم يكن يرغب في كتابة مذكراته لولا أصدقاء له يكبرون كفاحه من أجل التنوير، وفي مقدمتهم يوسف إبش، وهو مثقف سوري على غير وفاق مع النظام في سوريا كان يعمل أستاذاً متميزاً للتاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت. فقد أقنعوه بأن يتولى “قسم التاريخ الشفهي” في هذه الجامعة تكليف من يسجل سيرته على أشرطة صوتية. وقبل ذلك العرض بعد تردد، مشترطاً أن لاتنشر هذه المذكرات إلا بعد وفاته. وهكذا تم تسجيل أربعة عشر شريطاً، أضيفت إليها صور ب”المايكروفيلم” للجزء الأكبر من كنز الوثائق التي جمعها. ولعل من الإنصاف أن نسجل هنا للأستاذ نعمان بذل جهد استثنائي ( بل معجز في تلك الظروف) لجمع الوثائق وحفظها منذ الثلاثينات حتى أصبحت صورها اليوم محفوظة في مكتبتين في بيروت ولندن، عسى أن تلقى الاهتمام بنشرها ذات يوم. ولنا أن نتصور أي وعي تاريخي بأهمية الوثيقة، وأي جهد خارق (في بلد يعيش ظروفاً قاسية) قام به شخص معارض غير مستقر، متنقل بين السجون والمنافي القسرية والاختيارية، للحفاظ على وثائق لم تبذل المؤسسات العامة أو الخاصة أو الأفراد أي جهد لجمعها والحفاظ عليها. إنه فعلاً أمر يستحق الإكبار والإعجاب.
ومن المؤسف أن الحركة الثقافية في اليمن لم تبرأ بعد من داء رفض التعدد. ينطبق ذلك على المؤسسات وعلى الأفراد. ولذلك تجد كل شخص غير مستعد لقبول روايات الآخرين عما شهدوا من أحداث، ومابدا لهم أنهم قد عرفوا أو سمعوا، ويتوقع منهم أن لا يقولوا إلا مايعرفه هو، ومايناسبه، ومايمكن أن يتخيله. أما أن يكتبوا الصفحة الخاصة بهم من كتاب التاريخ، كما عاشوه أو كما بدا لهم أو كما تمنوا أن يعيشوه، فذلك مدعاة لمعارك لاتنتهي، قد لاتقتصر على معارك الكلام. وفي هذا الجو الذي تطغى عليه روح نفي الآخر يغيب الجهد الموضوعي للمؤرخ المحايد، لأن أحدا لايعترف بدوره ولا بحقه في جمع الروايات والأدلة وفحصها والمقارنة بينها، ودراستها دراسة معمقة للوصول إلى أصح صياغة للنص التاريخي. وهذا مايجعلني أتمنى على الجميع أن يتحلوا بالتسامح، وأن يقبلوا من نعمان أن يروي سيرته، وأن يكتب الصفحة الخاصة به من كتاب تاريخ اليمن الحديث، وأن يعطوه فسحة لأن يعبر بحرية عن آرائه وعن رؤاه. فهو لم يعد طرفاً في المماحكات السياسية المكيافيلية، ولا خصماً ينبغي أن تحد كل الأسلحة للإطاحة به. ولم يعد على قيد الحياة ليحاجج ويدافع عن آرائه، ويشرح مابدا غامضاً أو غير مفهوم أو حتى غير مقبول. لقد أدى دوره ومضى. والحق أنه كان دوراً رائداً وعظيماً سواء اتفقنا معه في بعض مايقول أم اختلفنا. ومما يحسب له أنه سجل هذه المذكرات الشفهية في ربيع سنة 1969 وقد انتصرت الجمهورية، ومع ذلك عبر بوضوح عن موقفه الحقيقي، مثلاً، من قيام ثورة سبتمبر 1962 حتى بعد أن انهزم خصومها، ولم يقم “بأثر رجعي” بإجراء جراحة تجميل لذلك الموقف. وقد قمت، بتكليف من المركز الفرنسي للدراسات اليمنية في صنعاء، بإعداد نص المذكرات للنشر، خاصة وأن من تولى تفريغ الأشرطة غير يمني، على الرغم من الجهد الكبير الذي بذله ويستحق عليه الشكر والثناء، صعب عليه أحياناً فهم أسماء الأعلام والأماكن اليمنية والنطق اليمني لبعض الكلمات.
كما أن التسجيل يعاني من بعض الفراغات. ومن طبيعة الحديث الشفهي أن لايصاغ في جمل مكتملة طويلة نسبيا على الرغم من حرص الأستاذ نعمان على الحديث بلغة فصيحة. ونوعية التسجيل في بعض الأحيان غير واضحة. وكان الأستاذ نعمان أحياناً يقطع رتابة الحديث ويتغلب على التعب ببعض الطرائف الممتعة، مماقد يقطع تسلسل الفكرة. وقد تم التسجيل خلال أيام متباعدة لبضعة أشهر (من فبراير إلى مايو 1969). وكان الأستاذ أيضاً يتحدث على سجيته من الذاكرة، وعلى نحو متقطع مما يؤدي أحياناً إلى الاستطراد أو التكرار. لكن كل استطراد يكشف عن معلومات إضافية وعن أحداث أخرى، وقد يوسع مجال الرؤية. ولعل ممازاد في التكرار أن ابنه محمد الذي تحمس لهذا العمل، عندما اطلع على الأشرطة المسجلة وجدها لا تحيط بجميع القضايا التي يعرف أن والده يستطيع الحديث عنها. وربما كان واضع الأسئلة الإضافية التي سجلت إجاباتها في آخر شريط، لأنها أسئلة صاغها شخص مطلع وتختلف عن الأسئلة السابقة التي يبدو من أن وجهها شخص غير مطلع على تفاصيل سيرة نعمان. وقد كان الأستاذ نعمان يتحدث عن أشخاص وأماكن وأحداث حاضرة حضوراً قوياً في ذاكرته بحيث لاتحتاج إلى تعريف أو توضيح. وهو مااستدعى أن أهتم بالتوضيح والتعريف حتى أسهل على القارئ العادي، وبخاصة من الأجيال الجديدة ومن غير اليمنيين، قراءة هذا النص المهم. وقد واجهتني منذ البداية مشكلة الشكل الذي ينبغي أن يتخذه عملي. واستقر الرأي على أن أحرص على بقاء نص نعمان كماهو في صورة إجابة على أسئلة طرحها عليه آخرون فأجاب عليها بتوسع أحياناً وبإيجاز أحياناً أخرى، حسب نوع السؤال ومزاج اللحظة وتداعي الذاكرة. وتركت عبارات نعمان كماهي إلا حين يستدعي الأمر بعض التدخل لإكمال الجملة أو ايضاح الفكرة دون مساس بالمعنى. فهل وفقت؟