ولدت في منطقة( ذبحان) ولعبت كرة «الشقلح» وكانت «المعلامة » المصدر الوحيد لثقافتنا «الشذاب» والمكوى بحجر «الياجور» كان علاج المرأة اثناء الوضع ووجبتها «المعصوبة» وبعد الولادة تعود إلى الجوع المولد والنشأة .. حضرة الشيخ أحمد محمد نعمان، أنستطيع أن نعرف أين ولدت، وأين تعلمت، وهل لك أن تحدثنا عن أفراد عائلتك؟ .. الواقع أنا ولدت في منطقة اسمها “ذبحان”، في قمة جبل مرتفع في اليمن، وفي الجنوب منه (تقع في المنطقة المعروفة بالحجرية، محافظة تعز)، في 6 ربيع الآخر سنة 1327ه/ ويصادف بالميلادي 22 أكتوبر سنة 1909م. والعادة هناك أن لا يعنون بشيء من تاريخ الإنسان وحياته. وأسرتي أسرة محافظة ومتدينة. والعادة هناك أيضاً عند ميلاد الإنسان أن يقيموا في اليوم السابع من ولادة الطفل احتفالاً صغيراً بمناسبة اختتان الطفل، وهذا أمر مشروع، لابد من ختان الطفل، وحلاقة رأسه، ويسمى العقيقة. ويوجهون بمناسبة الاحتفال الدعوة لجميع المعروفين في القرية، يطعمونهم ويذبحون الذبائح. .. يقيمون هذا الاحتفال لولادة الطفل الذكر فقط أم للبنت أيضاً؟ .. للصبيان فقط. لأن الختان غير موجود للبنات. ولكن الختان يعتبر من الناحية الدينية مشروعاً، ومن الضروري ختان الطفل الذكر والأنثى أيضاً. ويتفنن الفقهاء في وصفه وصفاً مفصلاً، ويحددونه ويقدرون القدر الذي ينبغي أن يقص من المرأة حتى لايتجاوز بحيث يضعف شهوتها إذا جازفوا في ختانها. إلا أنهم يذبحون كبشين يوم عقيقة الولد وكبش واحد للبنت. وخلال هذا تقام حفلة، ويأتي النشادون يقرأون التعاويذ في الليل من أجل سلامة الولد. وعندهم تراتيل يرحبون فيها بمجيء النبي : مرحباً يانور عيني مرحباً مرحباً جد الحسيني مرحباً ثم يرقصون رقصاً دينياً (يعقدون حلقات ذكر صوفية) ويشترون القات ويسهرون لمضغه. .. ماهو القات ؟ .. القات شجر منتشر في بعض مناطق اليمن، يملكه بعض الناس ويبيعونه بأثمان لا بأس بها بحيث أنهم يكسبون منه. ويتجمعون في بعض المجالس أو في بيوتهم يمضغون هذا القات ساعات من النهار بعد الانتهاء من العمل، ينتشون به. يختزنونه في أفواهم أو يبصقون رحيقه إلى وعاء خاص حتى لايبتلعوا الشيء الكثير منه. وكلما خف التخزين ضاعفوا الورق. يستمرون بهذه العملية من بعد الظهر إلى أن تغرب الشمس ثم في الليل حيث تقام الحفلات وينطلقون بالأناشيد والتخزين.. يشتري صاحب الحفلة كمية كبيرة من القات ويوزعها على الموجودين. وهكذا ينتهي احتفال المولد. ولا وجود لمستشفيات للولادة. وإذا تعذر الوضع لدى بعض النساء يذهب أهلها إلى بعض الفقهاء والمتدينين ليصنع لها رقية تعلق إلى فخذ المرأة حتى تضع المولود. ويعتقدون أن هذا يسهل عليها الوضع. يكتبون في هذه الرقية أسماءً مثل، بطر، زهج، زاح، يعتقدون أن هذه الكلمات الثلاث أسماء لبعض الملائكة، تكتب في ورقة وتطوى ثم تربط في خيط ثم تعلق بفخذ المرأة التي يتعذر عليها الوضع، وبذلك تسهل عملية الولادة. هكذا يعتقدون لأنه لايوجد طب ولايوجد عندهم أي شيء (من الرعاية الطبية). وبعد أن تلد المرأة تعالج نفسها بالشذاب والمكوى، تحمى لها حجرة من الياجور تضعها على جسمها لتخفف عنها الآلام، لأنه لم يكن معروفاً عندهم استخدام الماء الساخن. ثم تشرب من أنواع المر والأدوية البلدية، وتأكل العيش الساخن مع العسل غذاء لها. وتسمى هذه الوجبة “المعصوبة” وهذا هو “النعيم” الذي تنعم به المرأة أيام الولادة فقط، أما إذا انتهت أيام الولادة عادت إلى الجوع. .. هل كنت الولد الأول لوالدك؟ .. كلا. كان قبلي عبدالحميد، وأحمد، وعلي، وعبدالله، ونعمان. أنا السادس من الأطفال الذكور، ومن ورائي أيضاً ذكور وإناث أذكرهم بالأسماء : زبيدة، وفاطمة، وخديجة، وعبدالعزيز، وزينب، البعض قد توفوا ولم يبق إلا أخ واحد أبو عزيزة، زوجة ابني محمد. وكانت هذه عادة الأسر. يتزوجون من بعضهم البعض لأنهم حريصون على الإقامة (في أسرهم)، لايريدون أن يرسلوا بناتهم إلى جهات أخرى لحرصهم على إقامتهن في البلد (بالقرب منهم). ولم تنفتح لهم الهجرة منذ عهد الجد نعمان. وقد كان هذا الجد يعتبر عمدة “ذبحان”، ويسمى هناك الشيخ نعمان. وقد أنجب أولاداً، هم أبي وأعمامي، تولوا السلطة في هذه المنطقة كلها. وعرفت أسرة بيت نعمان بأنهم مشايخ قضاء الحجرية. وكان أبرزهم عمي أحمد نعمان “بك”، لأنه اتصل بالأستانة وذهب مع مشايخ اليمن إلى السلطان محمد رشاد ومنح لقب “بك” لكن الأسرة كانت تعيش في بساطة، فلا تجدون فرقاً بينها وبين الآخرين، والعيشة عيشة شظف، مثلاً نتناول في الصباح قطعة من العيش ونذهب إلى الكتّاب (المدرسة البسيطة).. لنأخذ (سيرة حياتي) أولاً قضيت سبع سنين ولم يكن هناك أي شيء اعمله. كنت ألعب في الطرقات في القرية مع الأطفال كرة “الشقلح” بعصا صغيرة في طرفها كسر. يحدفونها بالعصي إلى محل بعيد. وكان يحدث بيننا وبين أبناء القرى المجاورة تبادل الرجم بالأحجار. يغلبوننا أو نغلبهم، وأحياناً تحدث جنايات وكسر رؤوس يسمونه “عُديف”، أي أبناء هذه القرية يجتمعون ضد أبناء القرية الأخرى “يتحاجرون”، أي يقذفون بعضهم بعضاً بالحجارة. الدراسة في المعلامة ذهبت في السنين التي بعدها إلى “المعلامة”، وهو “الكتّاب” الذي يعمل فيه فقيه القرية بتعليم الأطفال. يجلس الفقيه على دكة مرتفعة ولكنها ليست مفروشة وليس فيها حتى حصيرة. نتمرغ في الأرض كما تتمرغ الدواب. ويظل الأبناء متراكمين هناك والفقيه يدرّس كل واحد بمفرده، حيث لايوجد نظام الصفوف. كل واحد يختلف عن الآخر. مثلاً واحد يقرأ الألف (أي أول حروف الهجاء) والآخر قد انتقل إلى سورة أخرى من سور القرآن.. كانوا يكتبون على الألواح بعد أن يطلوها بنوع من الحصى حتى تجف، ثم يكتبون عليها بالفحم لأن الحبر لم يكن موجوداً بعد, ولم يوجد الحبر والأقلام إلا مؤخراً. كنا نتعلم القراءة فقط عند الفقيه ونقرأ القرآن ونحفظه غيباً وليس فهماً وربما كان الفقيه نفسه لايعرف المعاني، بل يكتفي بالألفاظ. فكنا نحفظ الألفاظ، وربما حفظاً مغلوطاً لأننا لانفهم المعنى، ولسنا مطالبين بفهم المعاني. كنا نبدأ بالألف باء ثم نقرأ بعدها جزء عم (من القرآن الكريم) ونواصل قراءة السور سورة فسورة حتى نصل إلى سورة البقرة. كنا نختم القرآن جزءاً بعد جزء.. وكلما حفظ الشخص جزءاً من القرآن كانوا يقيمون له حفلة يشترك فيها الفقيه والزملاء في “المعلامة” وتقدم لهم وجبة “عصيد” والعصيد قدر من الطحين يغلي بالماء ويخلط الماء بالدقيق، ويسمى “العصيد”. وكان هذا أكل اليمنيين عادة وليس فيه أي نوع من السكر، لأن السكر كان نادر الوجود وغالي الثمن ولايستخدم إلا في الأعياد. وإذا وجدنا قطعة سكر كنا نتضارب عليها، بينما كان العسل معروفاً ولكن ليس بكثرة، لأن الفقر كان موجوداً ومنتشراً.. ومن غير الوارد عناية الناس بالغذاء. ثم إن التعاليم الدينية كانت تقول : إن المؤمن يأكل بمعي واحد والكافر بسبعة أمعاء، وأن النبي كان يجلس شهرين لايوقد في بيته ناراً ولا يأكل سوى الأسودين التمر والماء.. بثت هذه التعاليم في الناس كثيراً من الزهد ومن عدم الإقبال على الحياة.. ولذا نجد الأجساد شاحبة وليست أجساداً متينة متغذية. عندما كنا نذهب إلى الفقيه نقرأ ونتشاكس يمسك الفقيه بآذاننا، وأحياناً يمسك الحصى ويضعها وراء الأذن ويقرصها حتى يدميها. وكل هذا للتأديب. وأحياناً يمسك بتلابيب الطالب ويروي هذه القصة وهي “إن الله عندما أنزل جبريل ليعلم النبي القرآن قال جبريل للنبي : اقرأ فيقول النبي ماأنا بقارئ فيكرر جبريل القول : اقرأ، فيقول النبي : ماأنا بقارئ، ثم يكرر جبريل مرة أخرى. وهكذا اتخذوها دليلاً على أن الطفل لايمكن أن يتعلم بسهولة، بل لابد له من عقوبة، ولابد من أن يعاقب ليتعلم لأن النبي لم يتعلم إلا( بتكرار وإلحاح). كانت المعلامة المصدر الوحيد لثقافتنا.. كنا نعاني معاناة كبيرة من الفقيه لشدة العقوبة التي كان يفرضها علينا. وكنا نعاني خوفاً من الفقيه. أما نحن فكانت أسرتنا تريد أن نتعلم، ولا يوجد معلم إلا الفقيه، فنذهب إلى الفقيه. أحياناً يقسو علينا بالضرب أما لكماً وإما قرصاً.. هذا إذا كنا على مقربة منه، أما إذا ابتعدنا فالعصا للمسافة البعيدة.. ونرجع للبيت، تنظر الأمهات إلى أجسادنا ثم يحدثن.. الآباء عن اجسامنا المضروبة والمشوهة، فكانوا يقولون نحن لا نريد إلا العين والعظم فقط ، أما اللحم والجلد فللفقيه. هكذا ينشأ الطفل في هذا العذاب والرعب. وعندما نعود إلى البيت نواجه معركة الصلاة. ولم يكن عندنا الوعي الديني والفهم، كان البرد قارساً شديداً فنضطر للوضوء بالماء البارد، تتقطع أيدينا وأقدامنا من شدة البرد، ونضطر للوضوء من حوض واحد، جميع الناس يتوضأون منه، منهم من يتمخط ومنهم من يبصق، ومنهم من يغسل قدميه..المهم عبادة الله، ثم ندخل إلى المسجد ونظل طوال الليل نغالب النعاس، فيغلب علينا النوم لأننا كنا أطفالاً فيقرصنا الآباء وهم في حالة ذكر، يرددون : الله ،الله، الله، الله. كانت روح الصوفية موجودة .وكانوا يرددون أذكاراً وأوراداً يتحلقون في المسجد، أي يجتمعون في حلقة للذكر ما بين المغرب والعشاء ، فيظلون يرددون : الله،الله،الله..أولاً وهم جالسون، ثم يرتفع الصوت شيئاً فشيئاً: الله، الله ،الله...وإذا بهم يقفون قياماً، ثم ترتفع الأصوات حتى يصلوا إلى مرحلة لا ينطقون فيها اسم الله، وإنما يرددون: آه..آه..آه...ويتواصل الضجيج والنحيب والناس مبهورون..وعندما ننتهي من هذا نصلي العشاء.وبعد الانتهاء من صلاة العشاء ندخل في ليل مظلم ننتظر العشاء، يأتي العشاء وهو وجبات من الأطعمة، هنا مائدة وهناك مائدة يسمونها “الفتة” وهي خبز بالمرق. نتحلق في حلقات ونبدأ قائلين: “باسم الله. اللهم بارك لنا فيما اجتمعت عليه الأيدي. باسم الله” فيأخذ كل واحد لقمتين أو ثلاث حسب شطارته. والمسكين يأكل لقمة واحدة ويحمدالله يقوم قائلاً:اللهم لك الحمد حمد الشاكرين ، ثم يذهب لينام على الطوى. وهذا ما مارسته أنا أيضاً يوقظوننا في الفجر الباكر، حينما يبدأ ظهور الخيط الأبيض في الأفق. نخرج إلى الحوض البارد. وقبل أن نمد أيدينا إلى الماء نرتعد بعض الوقت وبعدها نغامر، ثم ندخل المسجد ونحن نرتعد برداً، والبراغيث تأكلنا أكلاً. ولايحق لمن يصلي أن يحرك يده ولا أن يحك جسده. ولكننا إذا كانت الدنيا مظلمة نحك دون أن يرانا أحد. وبعد الصلاة تقام حلقة ذكر أخرى. نبقى في المسجد إلى لأن تطلع الشمس. بعدها نأخذ لقمة العيش ونذهب بها إلى الكتاب. وحين نصل الكتاب نسلمها إلى الفقيه. ويبدأ الفقيه بتعليمنا بعض الوقت. وعندما يوجد ثلاثون تلميذاً يعني ذلك وجود ثلاثين صفاً، لأن كل تلميذ يكاد يكون صفاً مستقلاً، واحد يقرأ والأخر يتهجى إلخ.صياح يدوي في المكان والفقيه مسرور، ويستمع في كل ساعة لواحد من التلاميذ. .. متى تأكلون في الصباح؟ .. عندما نغيب درسنا عند الفقيه يدعونا ويعطينا نصف اللقمة التي جئنا بها ثم يأخذ النصف الآخر. نجلس في شكل حلقة, ونكسر أقراص الخبز ونضعها في حجر أحد الأولاد ونبدأ نقرأ: “بسم الله الرحمن الرحيم :(لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) يا آمان الخائفين أمنا من كل خوف.يا آمان الخائفين أمنا في الدنيا والآخرة آمين ياالله” ثم نبدأ في تناول اللقمة بشراهة ونرجع بعدها لنكمل درسنا. يتبع