هل عندك الرسائل؟ نعم، عندي الرسائل وأجوبته عليها أيضاً، أخيراً اقتنعت بضرورة السفر إلى اليمن فتركت مصر بعد ثلاث سنين ورجعت إليه، وأذكر أنه حينما دخلت وأقبلت عليه وهو في مجلسه الذي يواجه فيه الناس قال لي: “وما جئت حتى آيس الناس أن تجي سموك منظوراً وجئت على قدر مستشهداً بهذا البيت من الشعر، وهي تحية قلبية، قربني إلى جانبه وظل يسألني عن الأحوال في مصر وكانت أيام الحرب العالمية الثانية، ومن يأتي من الخارج يعتبرونه ملما بكل شيء ويشعرون بضعف أمامه لأنه قد درس واطلع على كل شيء، فبقيت أحدثه عن الأحوال في الخارج وأقارن بين الأحوال في اليمن وما فيها من الاستقرار والأمان وحفظ الدين وعدم سفور المرأة، وأندب الحالة التي في الخارج، السفور، وشرب الخمور، وكل مايتعلق بالمفاسد المنتشرة وأضيف أن اليمن بوجود مولانا الإمام وولي عهده تطهرت من هذه الأدران، قلت هذا حتى أطمئن، لأن الذي يأتي من الخارج يحاط برقابة شديدة وتكون العيون مسددة نحوه، وإذا لم تعجبه الأوضاع في الداخل تعرض للسجن أو لأي أذى فعملت لكي أدخل الطمأنينة إلى نفوسهم،” وكان أخوه سيف الإسلام عبدالله قد قابلني في الزيدية في تهامة، وحدثته بهذا الحديث فأعجب وكتب معي رسالة، وكان وزيراً للمعارف، إلى أخيه سيف الإسلام أحمد يتحدث فيها عني وعن مقابلتي ويطلب إليه أن يكلفني بإدارة المعارف، واستهوت ولي العهد أحمد هذه الأحاديث، والحط من قيمة فاروق وأنه رجل قد خرج عن الإسلام وعن قواعد الدين، والقول عن بلاد مصر إن الرجال والنساء يسبحون معاً في شواطئ الاسكندرية، وعن السينما وأمور أخرى، وعن الفظائع الموجودة في الخارج كلها والتي نريد وقاية اليمن منها، فطلب مني أن أقول هذا علنا للناس، فصغت خطبة ألقيتها في المسجد الجامع بعد صلاة الجمعة والناس ينصتون وسيف الإسلام أحمد يبكي من شدة التأثر لما قد أصاب الإسلام والمسلمين خارج اليمن، ولم يبق سوى اليمن سالماً من هذا الخطر. وكلفني بإدارة المعارف في تعز، ولكن هذه الوظيفة كانت شكلية، وكان العمل أن أكون دائماً في مجلسه للإجابة على الرقاع، رقاع المظالم التي ترد إليه، والرد على الرسائل التي تصله بالبريد من جميع أنحاء المملكة، يوزعها على الجلساء في المجلس ليجيبوا عليها، ويستعرض كل الجوابات ويوقع عليها ويلاحق بعض الأجوبة وبعض الرسائل ليتولاها بنفسه، وحصلت الألفة بيني وبينه بهذه المجالس والمنادمات والمساجلات الشعرية والأدبية وأصبحت بمثابة الصديق، حتى كان إذا خرج للنزهة يمر بنفسه بالسيارة ليقف في الباب حتى أخرج ويأخذني معه لنمضي معاً كصديقين. مجالس سيف الإسلام أحمد هل كان يوجد الكثير عنده في المجلس؟ نعم، كان يوجد في المجلس مجموعة من الكتاب وكان زميلي الأستاذ الزبيري من جملة الكتاب، ولكن كنت أنا بالنسبة إليه كصديق يطمئن إليه، وظلت هذه العلاقة بيننا، وكان الناس يدمغوننا بالنفاق، وأننا في مركز يمكننا من أن ننصح الإمام والعادة هناك في اليمن لاتوجد معارضة إنما يقال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم ونحن باعتبارنا من العلماء يجب علينا أن ننصح الأمراء، وأن نكون بطانة خير وجلساء خير حتى نرشدهم إلى مايجب عمله، ولكن كانت المطالب في اليمن مختلفة، كان يوجد أناس لايريدون أن تصل الحضارة الحديثة إليها لأنها ستفسد البلاد، ولايريدون العلوم العصرية، وأناس آخرون يريدون التطور ويسمعون بالحركات الجديدة ويريدون أن تستفيد البلاد منها، وكانت مناسبات الأعياد أو الاحتفالات تأتي وتقام مهرجانات، يتصدر سيف الإسلام أحمد في هذه الاحتفالات فيأتي الخطباء والشعراء يتبارون بمدحه وبالثناء عليه وبذكر مزاياه وكنت أنا أرتب خطبة في كل مناسبة أتحدث فيها عن فضائل الإمام وعن مناقبه وعن ماتسعد به البلاد وأهلها، ثم ندرس طريقة نلمح بها على أمل إنشاء المدارس والقيام بالإصلاح، وكان هو أيضاً ينتبه لمثل هذه التلميحات ويأتي الزبيري فيلقي قصيدة وهكذا كان الأدباء يتبارون على هذا النحو بحيث تكاد الحركة الأدبية أن تكون محصورة في الثناء على الإمام، وطلب العفو منه ينظم المسجون قصائد يطلب منه العفو، ومن يخاف يطلب الأمان، ولم تكن أغراض الشعر والأدب تخرج عن ذكر مزاياهم وصفاتهم، وعن طلب رضاهم. كانت محنة البلاد وتخلفها على هذا النحو، وكل من ينظم قصيدة يكسب حظوة عند الإمام، إما يحصل على منصب أو على وظيفة قضاء، أي يعين قاضياً في أية منطقة أو يجعله مأموراً يتقاضى الضرائب لأنه يستفيد بعد أن يتقاضى الضرائب من الفلاحين، أو يصدر أمراً يوليه بموجبه على منطقة من المناطق لمجرد أن تكون قصيدته رائعة وأن يكون أديباً.. لم تكن كفاءة الإنسان أو مواهبه تتضح من خلال تقديم شهادة، بل بما يشتهر عنه في كتاباته وفي أدبه، المقياس كفاءة الرجل وليس مجرد أن يأتي بشهادة أو يقول أنا قرأت في مكان كذا، يرون أسلوبه كيف يكتب، وماهي أفكاره وعلومه في المجالس عندما يسمعون أحاديثه في النقاش. يكون الإمام جالساً وحوله مجموعة يتناقشون في مسألة شرعية مثلاً، هذا يتحدث وذاك يتحدث، هنا تتبين الكفاءة ويتضح من يصلح للقضاء ومن لغيره هذه هي المقاييس التي كان يعمل بها، لأن الشهادات العلمية لم تكن موجودة. محاولة التخلص من قبضة ولي العهد ظلت العلاقة بيننا على ماهي لكن كنا متطلعين إلى التغيير وكان يوجد أناس آخرون أيضاً يطلبون التغيير وكان الكثير من الناس يتساءلون لما ذا يظل نعمان والزبيري اللذان كان يشار إليهما بالبنان هكذا يقضيان أوقاتهما في المدح؟ لماذا لايقومان بعمل مايدعو للتغيير، وأنحى الكثير من الناس علينا بالأئمة، ولكننا كنا نتلفت حولنا ونقول كيف يمكن أن نخرج، وإذا خرجنا ما الذي نعمله لنعارض هذا الحكم؟ لابد أن نتلمس هذه الأجواء من حولنا، وهكذا سيأتي دور الأشخاص الذين اعتمدنا عليهم، لأننا كنا مانزال لدى ولي العهد وعندما رأينا أن الأمور لا تطاق استقر رأينا على أننا لابد أن نتخلص من قبضة ولي العهد وأن نهاجر إلى الخارج لكي نتمكن من كشف الأحوال التي تسير عليها اليمن، فقد أصبحنا نتخوف من أن الأمور لو سارت على هذا النحو قد تصبح البلاد عرضة لغزو خارجي. كان هذا يساورنا أيضاً وكان الخطر يأتي من الطليان لأنهم استعمروا الحبشة واحتلوا في تلك الفترة وكان لهم مطامع في اليمن، ويأتي أيضاً من الانكليز وهم في عدن، وكانت في نفوسنا كراهية للاستعمار لما نسمع من الضجة في العالم العربي، مما يشكون من الاستعمار وضياع فلسطين هذه كلها كانت تثير في نفوسنا الطموح لأن تتطور اليمن إلى وضع يمكنها من حماية نفسها، إلا أن الأسلوب الذي تسير عليه الحكومة لايحقق هذا الطموح، والشعب ساخط على هذا الحكم وسيرحب بأي غاز يأتي إلى البلاد، وقررنا أن نخرج. فوجئ ولي العهد بخروجي أنا والزبيري إلى عدن وبدأنا نكاتبه من هناك، وأذكر أنني كتبت له رسالة بعد موقف متوتر في الجلسة التي أخبرتكم عنها في الحديث السابق حينما سأل بعض الأدباء أنت تقرأ الأدب وأنت تقرأ كذا، وهدد قائلاً “والله لأسفكن دماء هؤلاء الأدباء بسيفي هذا، حتى ألقى الله وهو عني راض”، جعلنا هذا الإنذار نخرج تركت الرسالة عند أم الأولاد كان محمد طفلاً صغيراً قلت لها بعد أن نسافر بيومين أرسلوا محمد بهذه الرسالة إلى ولي العهد وهذا الكتاب، وكان الكتاب تجديد ذكرى أبي العلاء المعري لطه حسين، وطه حسين من الأسماء التي كان ينفر منها، لم أجرؤ على أن أقدم له الكتاب فكتبت له رسالة عاطفية أقول له فيها: “يعلم الله أننا لم نخرج سخطاً عليكم ولاغضباً منكم ولكننا خفنا على أنفسنا من أن نصبح عرضة لوشاية نمام وتصبح حياتنا مهدرة بسبب نميمة أو وشاية. والبحتري يقول: ولقد رابني بنو ابن عمي بعد خفض من جانبيه ومس أي أنه هاجر قال: “إني شددت الرحال بمجرد الشك من ابن عمي”، وهكذا ارتاب في ابن عمه وشك فارتحل من البلاد فكيف نحن حينما نرتاب من ملك قادر أن يبطش وأن يفعل مايريد، وموسى حينما خرج قال: ففررت منكم لما خفتكم،إذا كان الأنبياء يفرون من الخوف فكيف بنا نحن؟ جعلت الخوف المبرر الذي دفعنا إلى القرار،فأرسل ولي العهد رسالة مؤثرة إلى عدن، يقول فيها إن هذا لا يخطر ببال ولا كان يتصور ولا ينتظر ماحدث، وطلب أن نرجع، أما نحن فقد كنا نشعر أننا ارتكبنا خطأً لا يمكن الرجوع عنه، فبقينا بالمعارضة في عدن وأسسنا حركة الأحرار إلى أن دخلنا سجن حجة، فإذا به يبعث لنا الرسالة الذي حدثتكم عنها “ أعاد الله سالفات الأيام، وإننا نتذكر ما قلتم وما كتبتم، وعلم الله ما أضمرنا لكم سوء” فقلت يخاطبني بهذا الخطاب كالذي يعتذر إلى صديق وأنا في أسره وفي قبضته وله ألف مبرر لأن يقتلني، لأنني من المتهمين بقتل أبيه ويستطيع أن يزور علي أية تهمة، أثر هذا في نفسي وأجبت عليه وأنا متأثر بمشاعر العرفان من هذه الرسالة، وتأثر نائب حجة الذي قرأ رسالتي إلى الإمام أحمد.