أذكر فيما يشبه الحلم أوّل صدمة بين الواقع والنظريّة ، ارتطام الطفلة الساذجة بجدار صلب وليتني اكتفيت بمرّة واحدة ، في كلّ مرّة وجه مشرق للنظريّة يغريني بالمرور مباشرة إلى التنفيذ وأنفّذ فينقلب العالم على رأسي فأزداد حيرة أين الخطأ ؟ في النظريّة أم في الواقع ؟ وعلى أيّامنا كانت قرارات المنع دون تفسير . لا وكفى ، ليس ضروريّا أن تفهم بل لعلّ طلب الفهم يعتبر آنذاك جرأة فتصمت و لكن دون اقتناع و بداخلك حنق وثورة و ضيق لو تسرّب خارج ذاتك لأحرق الأخضر واليابس و لكن حبّك للأهل يثنيك ، نقطة ضعفك ومكابحك التي تحول دون انفجارك . ومنذ ذلك الزمن أدركت أنّ الحبّ جبّار أكثر من الخوف . كم كانت طويلة تلك الليالي التي قضيتها ألوم نفسي و أعنّفها ليس على أخطائي فقط/ وإن كنت على حقّ ... أو هذا ما كان يبدو لي/ بل على أخطاء أشقائي أيضا ، كان هناك شيء يتبعثر في داخلي حين أرى أبي يغضب أو يتعكّر مزاجه ، وقد أترك سريري في الظلام و أتسلل إلى غرفته لأسترق منه قبلة و هو نائم . آه لو يعلم أنّها كانت قبلة المعتذر عن خطإ لم يرتكبه أو على خطايا غيره... أستيقظ في الغد فإذا بكوب عصير البرتقال الطازج و حبّة الموز قرب سريري فأعلم أّنّ قبلة الأمس لم تذهب سدى فأستكين لهذا الصلح الرقيق و ترتاح نفسي أيّاما ثمّ لا تلبث أن تحنّ لتجربة جديدة . كان يربكني الصراع . حوار طفلة في الحادية عشر مع المحيط و التقاليد و الجائز و الممنوع مع الأصدقاء و المطامح و كلّ جديد . حدّثنا المعلم مرّة عن قيمة الصّداقة و أثرها في تكوين الشخصيّة ، حديثه كان كافيا لأمرّ مباشرة إلى التنفيذ . مع جرس المغادرة كانت الفكرة قد استوت في ذهني ، كلّ الأطفال انطلقوا إلى بيوتهم إلاّ أنا فقد قرّرت زيارة صديقتي جازية الغائبة عن القسم منذ يومين ، ما كان يفصل بين بيتينا سوى زقاق واحد و أبوانا صديقان وليس لها إخوة ذكور ولكنّ كلّ هذا لم يقلّل من حجم الكارثة : التصرّف دون إذن والتأخّر عن موعد العودة بساعة ونصف . كان شقيقي بانتظاري عند الباب “ بابا مستحلف لك “ هكذا كنّا ، نضطلع بدور المرصد إذا لاح خطر في الأفق لنهتدي إلى الحلّ. بالنسبة لي كان الحلّ سهلا : نصف إيماءة لشقيقي الأكبر كي يتقمّص دور الأب و يتظاهر بلومي و تقريعي فيتدخّل صاحب القلب الكبير “ ما دخلك؟ عندما أموت إفعل ما بدا لك “ فأرتمي وأحتمي و أختفي في الحضن الدافئ و أعتذر فيُقبل اعتذاري على الفور . يا لهذا الجبل من الحنان ما ألطف شعابه وما أغزر معينه .وكذلك كان الأمر بالنسبة لأشقائي مع أوّل سيجارة دخنوها ، مع أوّل سهرة تأخّروا فيها ... كان ذلك العفو المتدفّق في وعي بمشروعيّة التجربة ما يأسرنا جميعا و يمنعنا من الهفوة ، حبّ ذلك القلب الكبير ، ذلك العملاق المتجهّم قليل الكلام كان يأسرنا بحسناته و يفاجئنا ، تخفي عنه أنّك تدخّن فيُهديك علبة سجائر ، تطلب منه مبلغا فيعطيك الضّعف ... فترتبك وتعود باللوم على نفسك حتّى و إن لم تفعل شيئا . حبّ أخطبوطيّ كثير المواهب تصل أصابعه للجميع دون تمييز فتحضن وتروي حتّى إن سرّحتك فأنت لا تبتعد كثيرا ، لك شاطئ هنا يمكنك العودة إليه ساعة تشاء لتنعم بظلّه . أين أنا منه اليوم ، ردمته الصّخور القاسية وصار ماؤه أجاجا وهجر الأخطبوط إلى العمق السّرمد . فليسبح بسلام .