تمضي بي الأيام وأنا أقابل المرضى من جميع الأعمار والفئات والمستويات، وأحاول قدر الجهد والطاقة أن أقدم لهم أقصى ما في وسعي من العناية الطبية الممتازة، وأن أواجه المشاكل التشخيصية البسيطة غالباً، والعويصة أحياناً، وأحاول حل مشاكلهم واتخذ القرارات بشأنهم جميعاً في النواحي الطبية والعلاجية. وأثناء عملي المعتاد في مساء أحد الأيام، دخل إلى مكتبي رجل في حدود الأربعين من عمره وسلم علي بحرارة وألفة، مما يدل على أنه يعرفني معرفة مسبقة وإن كنت لا أتذكره، وكانت والدته تمشي على إثره، وبعد انتهاء الترحيب والسلام بادرني مشيراً إلى والدته وهو يقول: "والله يا دكتور أحمد.. الوالدة مقيمة في صنعاء طول عمرها وبيتها هناك.. وكذلك الإخوان والأخوات.. وأنا قد انتقل عملي إلى تعز منذ عامين.. وهذه أول مرة أنجح في إقناعها تنزل للإقامة عندنا.. تغير جو وترتاح بين الأولاد، وعندها مشكلة منذ أكثر من ست أو سبع سنوات، وهي الدوخة والدوار، وقد تعاينت عند عدد كبير من الأطباء في صنعاء.. ولكنها لم تستفد بأي شيء، ولذلك فإنها لم تعد تتعاين أبداً منذ أكثر من أربع سنوات.. ولم يعد لها ثقة في الأطباء على الإطلاق، لكني استغليت فرصة وجودها في تعز.. وصممت عليها أن تقوم بالمعاينة حتى نطمئن وما وافقت إلا بعد أن حدثناها عنك كثيراً.. وكذلك ما سمعته من بعض المعارف والجيران". كانت المريضة امرأة صغيرة الجسم، نحيفة القوام، في حدود الستين من عمرها أو بعدها بقليل، وعندما وجهت إليها اهتمامي لأسمع شكواها أخذت تصف الدوخة والدوار الذي يحدث لها والذي يستمر ساعات أو أيام، ثم يزول ليعادوها بعد أيام أو أسابيع، ويكون أحياناً مصحوباً بصداع شديد يضطرها أحياناً لأخذ عدد من أقراص الباراسيتامول المهدئة التي لا تفيد شيئاً. وبعد أن سألتها الأسئلة الروتينية والجهازية اندفعت في شكوى من الأطباء الذين لم يستطيعوا معرفة مرضها، ولا إعطائها الدواء اللازم، وأنها حتى أصبحت لا تريد أي دواء، بل أصبحت تريد فقط معرفة سبب مرضها. ومثل هذه الحالات تثير بداخلي مشاعر متناقضة، حيث لا أقدر على أن أتصور ما الذي يمكن أن أفعله بعد كل الأطباء الآخرين، وفي نفس الوقت فإن المريض قد وضع ثقته الكاملة لدي، وعلي أن أحاول استحقاق هذه الثقة وأقدم له شيئاً مختلفاً يطمئنه إلى أن مجهوده لم يضع سدى. وعندما اكتشفت من خلال قصتها المرضية واستجوابها، أنه لم يطلب منها أحد من الأطباء خلال تلك السنوات إجراء كشف أشعة مقطعية للدماغ، حمدت الله أن باباً للفرج قد انفتح أمامي لمقاربة حالتها، والتأكد من عدم وجود آفة في الدماغ تكون سبباً لعلتها. وبالفعل أجري لها الكشف في اليوم التالي، وجاءت إلي المريضة مع ابنها لمعرفة نتيجة الكشف الذي أظهر ورماً دماغياً في المنطقة الصدغية والجدارية اليمني، وكانت خصائصه الشعاعية تظهر أنه ورم سحائي حميد، أي أن منشأة من السحايا وهي الأغشية المحيطة بالدماغ، وليس من الدماغ نفسه، وأكدت للمريضة أن الورم ليس خبيثاً وليس سرطانياً. وشرحت للمريضة ولابنها أن هذا الورم من النوع الذي يكبر تدريجياً وببطء شديد، ولذلك فإن الأعراض الناتجة عنه تكون قليلة أو بسيطة لا تثير الكثير من الشك الذي يدفع إلى تشخيصه في وقت مبكر، وأوضحت للمريضة أن العملية التي تجرى في مثل هذه الحالات مضمونة بدرجات كبيرة، وخاصة أن الورم ناشئ من غشاء الدماغ الخارجي وليس من داخل الدماغ. وسألني ابنها أسئلة أخرى منها مدى العجلة التي يجب فيها إجراء العملية، ولكي أضفي جواً متفائلاً أكدت لهم أنهم يمكن أن يتأخروا لعدة أسابيع، إن كان ذلك ضرورياً فنحن لا نستعجل إلا عندما نشك في الأورام السرطانية، والحمدلله أنه ليس هناك أي شك في السرطان في حالتها، وهي أخيراً قد عرفت سبب مرضها، وسوف يكون ذلك عاملاً مساعداً على الشفاء الكامل بعد إجراء العملية الجراحية. خرجت المريضة وابنها وشكرتني باقتضاب، وكرر ابنها الشكر لي وأبدى امتنانه الشديد وغادر سعيداً وراضياً، ولكن عاد إلي في اليوم التالي وكأنه يحمل هموم الدنيا كلها على رأسه. قال لي أن والدته أصبحت منذ يوم أمس في حالة لا يمكن لأحد أن يتصورها وأنها ترفض أن تكلم ابناءها وبناتها، وهي تعتقد أنها على وشك الموت، وأنها مصابة بسرطان خبيث، ولا تريد أن تشرب أو تأكل شيئاً وهي تبكي طوال الوقت. قلت له أن ذلك شيء طبيعي، فهي الآن خائفة وقلقة ومقدمة على عملية جراحية دماغية، وهي لا تعلم كيف ستكون النتائج وهذه تفاعلات طبيعية تحدث لدى كل من يصابون بمرض خطير أو حتى غير خطير، ولكنهم بعد أيام يستسلمون للأمر الواقع ويتقبلون الحقائق ويبدأون في مواجهة ما هو ضروري لعلاج أمراضهم، ثم قلت له أنني سوف أصف لها بعض المهدئات والمركنات التي سوف تساعدها على تجاوز هذه المرحلة من القلق والخوف والاكتئاب. وبدا كأنه لم يكن يستمع إلي فقد قال فجأة : " مش هي مشكلة دواء وحبوب مهدئة.. المشكلة هي أنك ماكنت يجب أن تقول لها أي شيء مما قلته لها بالأمس.. السبب في حالتها هو أنت !.. وأنا لما جبتها لعندك عن ثقة أنك سوف تطمئنها.. لكنك أمرضتها، وأصبحت في أسوأ حال بعد كلامك، والإخوان والأخوات في صنعاء الآن يسبوني ويتهموني أني أنا السبب لما جبتها لعندك. قلت له بهدوء : " لست أنا السبب في حالتها على الإطلاق.. أنا لم أسبب لها أي مرض.. مافعلته أنا هو مجرد الكشف عن المرض، وهو الأمر الذي كانت وكنتم تبحثون عنه... هل كان يمكنني أن أخفي عنها ورماً في الدماغ.. ؟!!!... وأقول لها أنت بخير.. ولا تحتاجين إلى شيء،... وعندما يحين موعد العملية هل يمكن أن نخفي عنها أنها سوف تجري عملية في دماغها؟.. وعندما تقول أنني كان يجب أن أطمئنها.. قل لي كيف؟؟ هل هناك طمأنينة يمكن أن تقوم على الكذب؟؟ وهل كان يمكنني أن أكذب عليها وحدها أو عليكما معاً ؟ أنت سمعتها تقول أكثر من مرة أول أمس أنها تريد معرفة مرضها حتى وإن لم تنل دواء فعالاً أو شافياً، وهل تعتقد أن الكذب واجب على الطبيب؟؟.. أنت عندما أحضرتها معك في اليوم التالي بعد أن تسلمت نتائج الكشف،ألم يكن ذلك يعني أنك تريد منها أن تسمع النتيجة بنفسها.. ولو كنت تريد أن تخفي النتيجة عنها لحضرت إلي وحدك.. وصدقني الآن أن هذا رد فعل طبيعي، وكان سيحدث إن أخبرناها بذلك اليوم أو غداً أو بعده.. والآن يمكن مواجهة الموضوع وعلاجه، وإن أردت أن تحضرها إلي مرة أخرى لإقناعها بذلك فأهلاً وسهلاً وفي أي وقت. أخذ يهز رأسه بعدم اقتناع، وهو يردد بغضب مكبوت، وبمرارة شديدة، وكأنه يكلم نفسه : " ماكان يجب عليك أن تقول لها أي شيء.. لكن الغلطة غلطتي أنا.."، ردد الجملة الأخيرة مرتين أو ثلاث، وهو يتوجه نحو باب الخروج، دون أن يلتفت نحوي أو يوجه إلي كلمة أخرى. في مثل هذه الحالات وغيرها كثير، لا يهمني مايقوله الناس ولا مايفكرون به ولا تهمني اتهاماتهم، ولا يهمني إن أحبني المريض أو كرهني، ولا يهمني إن أعجبته أو لم أنل إعجابه، وأنا لا أكترث كثيراً بآرائهم، ولا تزعجني أقوالهم. وبنفس الطريقة فأنا لا أكترث لمدحهم، ولا أرتاح لكلمات الشكر والتقدير التي يرددونها صادقين أو كاذبين، عندما توافق النتائج رغباتهم وتوقعاتهم وأمنياتهم، وخاصة عندما لا يكون لي يد في الأمر ولا سيطرة على النتائج التي حققت لهم مايرجون ومايتمنون. إن مايهمني بالفعل هي أمور محددة، تدور في ذهني كل ليلة قبل أن أستغرق في النوم مرتاح الضمير، مطمئن البال : " هل قمت بواجبي المهني والأخلاقي في توفير الرعاية الطبية للمريض الذي حضر إلي، وفضلني على كل الآخرين، ومنحني ثقته وتقديره؟ هل وجد لدي مايبحث عنه من التشخيص الطبي الصحيح، هل وصفت له العلاج الضروري وبالجرعات المناسبة ؟ هل رحبت به بشكل لائق عند دخوله إلى مكتبي؟ هل جاملته أثناء الحديث وتناول القصة المرضية والكشف الحكمي وراعيت خصوصياته بالشكل المناسب؟ هل شرحت له مايريد معرفته عن حالته بالقدر المعقول؟ هل أبديت له تفهمي ومعرفتي لمعاناته وآلامه ومخاوفه ونقلت إليه مشاركتي له في تلك المعاناة ؟ هل ودعته الوداع الذي يستحقه من الاحترام لشخصه؟ إذا أحسست أنني قد قمت بذلك أو على الأقل بذلت الجهد الضروري لتحقيقه أو حتى جزء منه، فإنني أدرك أنني قد قمت بواجبي وأديت دوري ووفيت بما توجبه علي واجبات مهنتي ومايمليه علي ضميري. وينتابني عندئذ ذلك الشعور المريح بأنني قد عزفت لحني.. وغنيت أغنيتي.. وسواء سمعت تصفيق وهتاف الجمهور، أو لم أستمع إليه.. فإن ترديدي لأغنيتي واستمتاعي بها يكون قد وصل بي إلى قمة النشوة والارتياح.. وتكون جائزتي الأخيرة ليلة من النوم العميق. انتهت